سيرج باي.. لا يجب الدّفع مقابل قصيدة

سيرج باي.. لا يجب الدّفع مقابل قصيدة

03 يوليو 2019
(الشاعر سيرج باي في أحد عروضه الأدائية)
+ الخط -

"الرياضيّات العامّة للّامتناهي"، هو كتاب الشاعر الفرنسي سيرج باي الصادر في سلسلة دار غاليمار الفرنسية. عنوان ضارب في الغموض لمن يتابع إبداعات سيرج باي الذي كتب عنه الشّاعر أندريه فالتير، في مقدّمة هذا الكتاب الصّادر مؤخّرا بمناسبة ربيع الشّعراء أنّه: "شامان ذو عقدة غير مسبوقة، ذو نبرة في نفس الوقت إسبانيّة، أوكسيتانيّة، كاثاريّة وغجريّة، باي يجعلُ من فضاء الكلمة طقساً".

لفهم كلّ هذا، يجب ربط حياة الشّاعر بأعماله وإبداعاته، فسيرج باي من أولئك الذين يعتبرون الشّعر والحياة معركة واحدة. تجدرُ بنا الإشارة إلى أنّ سيرج باي ولد سنة 1950 في مدينة تولوز الواقعة جنوب فرنسا في منطقة الأوكسيتانيا. كانت أمّه خيّاطة وكان والده عاملاً في البناء، والده الذي كان لاجئا سياسيّا بعد هزيمة الجمهوريّين خلال الحرب الأهليّة الإسبانيّة سنة 1937. يمكن كذلك القول إنّ ساعده اشتدّ تزامنا مع تبلور وعيه مع حركات التحرّر في العالم من أميركا اللّاتينيّة إلى آسيا مروراً بأفريقيا وأوروبا. كبر الطّفل صحبة أشعار فيديريكو غارسيا لوركا، ونيرودا، وميغيل هارننداز، وفرنسوا فيّون، ورامبو. كما أنّه، في "صندوق بريد المقبرة" الصّادر سنة 2014، يروي علاقته المتميّزة مع الشّاعر الإسباني أنطونيو ماتشادو.

حياة سيرج باي ثريّة ومعقّدة، وهذا ما تعكسه بنية هذا الكتاب، بالرّغم من أنّ شعره أو شعريّته تتجاوز "الكتاب" كسند، أي أنّ القصيدة وطريقة إلقائها وطريقة عيشها مع الجمهور تتجاوز الثنائيّة القديمة بين الشّاعر والقارئ أو الشّاعر والمستمع. إذ يجعلُ سيرج باي من الجمهور عنصراً فاعلاً في فعل الإبداع.

شاعر حركي، فنّان تشكيلي، روائي، فيلسوف القصيدة، نجح في الوصول إلى ذلك عبر مئات الأعمال والعروض في فرنسا وخارجها، وعلى سبيل المثال، قام بعمل تحت عنوان "إملاءات شعريّة"، إذ وقع نسخ على عشرات الكراريس التي يوزّعها على الحاضرين قصائد مرتجلة يشارك في كتابتها الجميع، وبالتّالي في توقيعها. أدّى ذلك إلى نشر كتب عديدة مثل "عن المدينة والنّهر" أو "نبوّات"، وهي بمثابة "هابينينغ"، أي فعل إبداعي لا متناه ربّما نعرف كيف ندخل إليه لكن لن نعرف أبداً كيف نخرج منه، ليس لأنّه متاهة بل لأنّه "حوار لا نهاية له"، حسب عبارة الفيلسوف موريس بلانشو.

كلّ شيء إذن مفتوح عند سيرج باي: الشّعر، الحياة وحتّى الموت، كما في هذه القصيدة تحت عنوان "شاهدة":

"لأنّ الحياة فعل نظر
من زاوية واحدة لبيت منته
ظانّين أنّنا نرى

لأنّ الموت فعل نظر
من كلّ زوايا البيت اللّامتناهي
إلى أن لا نفكّر في أنّنا نرى".

طويلة كانت أم قصيرة، لقصائد سيرج باي صلابة "العصيّ"، وهذا الكتاب "الرياضيّات العامّة للّامتناهي" يجمع عدداً كبيراً من هذه القصائد التي تحمل عنوان "عصا". أحصينا منها 106 وجميعها تحمل عنواناً ثانويّاً. هي بمثابة الحكايات أو الأمثولات أو الأيقونات أو اللّوحات. في بداية الكتاب، توجد قصيدة عنوانها "القربان الأعلى لمنتصف النّهار" متكوّنة من سبع شذرات ولا تحمل اسم "عصا"، يقول فيها الشّاعر ما يمكن أن يكون شعرا على الشّعر أو "ميتابويتيكا" سيرج باي نفسه:

"في رأس المشّاء
النّهار يحدثُ ضجّة
والسّماء تُجهّزُ غداء بابها

لدينا مرايا
في أحذيتنا

لأنّ القمر واحد
من الرّقبات الثّلاث للّيل
الذي يربط العالم
بشَعْره الحديدي

لأنّ العصا تصطاد
من أجل ثلاثة رجال في اللّيل
طرقاً لا ترغب
فيها الأشجار

المشّاء يقطع غصن
شجرة كي يمشي

المنظر يتكرّر
ويستحضر جدول الضّرب

حصان يخفي
مراياه الصّغيرة"

ليس هذا الشّعر سهلاً. كلمات سيرج باي سلسة بالفرنسيّة لكنّها صعبة ومعقّدة في بنيانها وتشكيلها ومجازها، فهي تصوّرُ عوالم جديدة وتكشف عن مخيال ضارب في الإنسانيّة، تلك الإنسانيّة المعذّبة التي ما انفكّ الشّاعر يدافع عنها، كما يتجلّى ذلك في قصيدة "قيامة مريم المجدليّة" التي تحمل كذلك عنوانا ثانويّا: "صلاة-سلام من أجل مسيح المزابل"، علاوة على تضمّنها قصيدة "إضراب عام الأنهار، إضراب عام العصافير"، وهي تنطلق بطريقة تهكّميّة بصلاة تقول: "إلهي، لا أستحقّ استقبالك، لكن قل كلمة واحدة وسأشفى".

ربّما يجب ترجمة النصّ بكامله وربّما يجب القيام بقراءة صحبة الشّاعر سيرج باي، حيث سيرى الجمهور العربي كيف يعيش هذا الرّجل الشّعر كمارد المصباح. هو "الشّعر الحركة"، هو "الشّعر الحياة"، هو نشيد الحبّ بالرّغم من الموت والدّمار والظّلم والفقر والجوع والبؤس التي تهيمن جميعها على البشريّة. هذا ربّما ما تعبّر عنه "الرياضيّات العامّة للّامتناهي" عبر هذه الشّذرة/ القصيدة بعنوان "كلمة السّر":

"لا يجب الدّفع مقابل
قصيدة
كما لا يجب
الدّفع للحبّ

العيون
قطع نقديّة
نعطيها للآخرين
عندما نرفضُ أن
نبيع أنفسنا"

نعم، يرفض سيرج باي أن يبيع نفسه والآخرين، لكنّه يحاول بالجسد والفكر والشّعر أن ينقذ الآخرين قبل نفسه. هو شاعر القبيلة الإنسانيّة الكبرى، أو شامانها. صوته من تلك الأصوات التي تشكل بصيص نور في عالم مهووس بالحسابات الضيّقة، في حين يمكن إنقاذه شعريّا بـ"الرياضيّات العامّة للّامتناهي".


* شاعر ومترجم وأكاديمي من تونس

المساهمون