رحالة مجهول..شاب سويسري في دمشق وحوران وتدمر عام 1827

رحالة مجهول..شاب سويسري في دمشق وحوران وتدمر عام 1827

16 مايو 2020
ثلاث نساء دمشقيات، 1873 (ويكيبيديا)
+ الخط -

سبق أن نشرنا في هذا الحيز الجزء المتعلق بحلب من رحلة الشاب السويسري، إلى سورية والجزيرة العربية وبلاد فارس، والآن ننشر الجزء المتعلق بدمشق وحوران وبادية تدمر، وذلك لما لهذه الرحلة من أهمية كونها تمت في فترة حساسة من تاريخ المنطقة أي في عشرينيات القرن التاسع عشر (عام 1827م على الأرجح)، وصدرت بالفرنسية عام 1830م، ولم تنشر، كما ذكرنا سابقاً، بالعربية حتى الآن.

ففي هذا الزمن كانت بلاد الشام تعاني من غياب السلطة والقانون نتيجة ضعف السلاطين العثمانيين، مما مهد في فترة لاحقة قريبة لاحتلالها من قبل قوات إبراهيم باشا نجل محمد علي باشا حاكم مصر العثماني.

ما يميز هذا النص، الذي وضعه سويسري من طبقة النبلاء وفضل عدم نشر اسمه عليه لاعتبارات خاصة به، حياده إلى حد كبير، وعدم بروز أي نوازع جرياً على عادة نصوص رحلات ذلك الزمن، فهو يقدم وصفاً أميناً لمدينة دمشق وسهل حوران ومدينة تدمر الأثرية وباديتها. ويتحدث عن العادات الجميلة لدى السكان العرب مثل كرم الضيافة في حوران، والبادية، وعناية الدمشقيين ببيوتهم ونظافة مدينتهم، وجماليات الأسواق والمقاهي التي كانت تقام على ضفاف فروع بردى.


مقتطفات من الرحلة

يقول عن دمشق "تقوم المدينة في سهل واسع، مفتوح من جهة الجنوب، والشرق، جهة الشمال والغرب تقوم جبال قريبة تحجب النظر، عدد كبير من الجوامع والمنارات التي تزين في العادة المدن الشرقية، تقوم وسط الحدائق والبساتين التي تمتد على مسافة أميال عديدة في محيط المدينة، والتي تمنح دمشق مظهراً رائعاً وسط هذه الغابة.

بيوت ريفية صغيرة، وأبراج صغيرة، سرادق الحدائق، وكثير من الأشياء التي لا توجد في أي مكان آخر من سورية، نستطيع أن نراها من خلال أوراق الأشجار، جمال المظهر تعزز أيضاً بهذه الظلال الخضراء، المتدرجة من الأخضر الغامق إلى الأخضر الزاهي المبهج، أضف إلى هذا الشمس المتلألئة وسماء الشرق الصافية، هاهي لوحة خلابة لا يمكن مقارنتها بالمناخ الضبابي الكثيف لبلادنا، حدائقها دائماً خضراء بأشجار الجوز، والليمون، والمشمش، والبرتقال، والرمان، كل هذا مع وجودها على حدود الصحراء يمنحها سحراً لا يمكن للكلمات وحدها أن تعبر عنه، العرب يتكلمون عنها بحماس وتعصب، ولا ينسون مديح الخضرة المنعشة للبساتين، وفرة وتنوع ثمارها، وعديد الجداول المائية، جعل مناخها صحياً.

لنهر بردى تدين هذه الحدائق بجمالها، يخرج بردى من سفح الجبل ثم ينقسم إلى ثلاثة أذرع، الذي في الوسط وهو الأكثر غزارة يتجه مباشرة إلى المدينة، حيث يغذي آبارها ونوافيرها، الفرعان الآخران، وعلى ما يبدو فقد حفر مجراهما بأيدي البشر يجريات إلى يمين ويسار المدينة ويرويان كل البساتين المحيطة بالمدينة، ويتفرع منهما العديد من السواقي الصغيرة، وما يفيض يتجمع في قناة واحدة جنوب المدينة، تجري مرحلتين قبل أن تصب في مستنقع هناك.

ماء دمشق منعش وشفاف، السير على القدمين، أو التجول على حصان في بساتينها، أو الاستلقاء في ظلال الأشجار على صوت خرير المياه، هي بالنسبة لأهالي دمشق متعتهم الغالية، وبالنسبة للغريب فهي ترفيه عن النفس لا مثيل له.

مقاهي دمشق مشهورة بسبب موقعها على ضفاف النهر، وسط الخضرة، وقد بنيت بحيث تمنع دخول أشعة الشمس وفي الوقت نفسه تسمح بحرية حركة الهواء، والنظر لا يقع إلا على شجرة خضراء، أو نافورة متلألئة.
تتكون من قبة عالية من الخشب، كسي جزء منها بالحصير والجزء المتبقي غطته النباتات المتسلقة، أثاثها عبارة عن ديوان خشبي يمتد في كل الجهات، جلس إليه رجال صامتون يدخنون الغلايين الطويلة ويستمتعون بالقهوة.

شوارع دمشق في الغالب الأعم ضيقة ومتعرجة، وهذا ما يجعلها في مأمن من الشمس الحارقة، وفي أعداد كبيرة من الأكواخ المبينة بالطين غير المشوي، نرى أعداداً كبيرة من الناس الفقراء يعملون لحساب مصانع الحرير الدمشقي الفاخر، منظر هذا الشيخ المنحني على نوله، والذي لا يختلف لون وجهه عن لون كوخ الطين الذي يسكنه، يتناقض مع لون لحيته البيضاء، وعمامته البيضاء كالثلج، ويداه الهزيلتان بالكاد تستطيعان تحريك مشط النول، إنه يعمل قماشة غالية الثمن، وشحوبه الدائم، يقدمان مشهداً صارخاً، عن هذا التناقض بين الغنى الفاحش والفقر المدقع في مكان واحد.

منازل دمشق تتكون من الجدار الخارجي المطل على الشارع وهو جدار أصمت، وبه باب صغير، ولكن ما إن تجتاز الباب الخارجي حتى يتم تعويضك عن فقر المظهر الخارجي بغنى الداخل، تصل إلى فناء واسع مزين بالرخام، وفي الوسط نافورة وأشجار مثمرة جميلة، في جهة يكون البيت الرئيسي وفي الجهة المقابلة يرتفع بهو بأعلى من مستوى الفناء.

هذا البهو هو الديوان الصيفي لأهل البيت، الإقامة في هذه البيوت ممتعة ورائعة جداً، سواء بسبب الهواء المنعش، أو بسبب ضوء النهار المتلألئ في البيت، أما الشمس فتنكسر حدتها بواسطة الأشجار، البيوت الداخلية واسعة ومريحة وغالباً ما تكون الأرضية مغطاة بالرخام، والحيطان مزينة برسومات بالألوان المائية، وداخل الدور أرفف لحمل أواني الخزف وما شابه.

كذا هي بيوت دمشق، وبشكل عام كل مدن الشرق، لا يختلف الواحد عن الآخر إلا بمساحته، وبشيء أقل أو أكثر من الفخامة، وإذا كان هذا الطراز من العمارة يعطي للطرقات مسحة من العتمة والرتابة، فإنه بالمقابل يمنح الهدوء والطمأنينة للحياة الخاصة داخل البيوت.

لا نسمع أي ضجيج ينبعث من طرقات دمشق، ولا عربات تسير في طرقاتها، إلا قليل منها بدواليبها الخشبية تكسر الصمت لفترة، بين وقت وآخر نسمع نهيق حمار يجر عربة صغيرة، أو جمل أو بغل، وبصورة أندر صوت حصان، لا يوجد هنا نستطيع أن نقول، ما يزعج قيلولة السكان".


أسواق دمشق

تفتن الرحالة السويسري الشاب أسواق دمشق، إذ يكتب "الحالة مختلفة تماماً في الأسواق، وهي غاية في الجمال والاتساع، عدد منها مسقوف، وهي منعشة وجافة في كل الفصول، هنا يجتمع المشترون والبائعون من كل البلاد، حيث تجد بضائع ليفربول بجانب بضائع الهند.

في بازارات الشرق عموماً، كل مادة أو منتوج وله سوق خاص به، فإن كنت تبحث عن حذاء مثلاً فسيقودونك إلى درب طويل لن ترى على جانبيه سوى الأحذية ولا شيء سواها، المشهد يذكر بالمعارض التي تقام في أوروبا.

حتى الدروب الضيقة مليئة بالمشترين، والتجار يبيعون ويشترون بصوت عالٍ، مشهد مليء بالحركة والحيوية وغاية في الظرف، الملابس والفرش تباع غالباً في المزاد، وفي هذه الحالة فإن رجلاً يحمل السلعة المعروضة للبيع على رأسه ويدور بها في أرجاء السوق يعرضها على الناس، وخلفه البائع يصرح بشروط البيع، والمتاجر مفتوحة بطريقة تعرض كل بضائعها، الأكثر متعة ومرحاً هي متاجر الألبسة جاهزة التفصيل، هنا كل شيء بحساب، الملابس الرخيصة الثمن، والملابس الحديثة، بالنسبة للفقراء سيجدون أكواماً من الملابس الشرقية المتباينة، ويأخذون في قياسها وتجريبها في عرض الطريق، أو في داخل متجر الطرزي، وقد يتوقف العاطلون عن العمل يستعرضون الملابس ويبدون ملاحظات على نوعية القطيفة أو الصنعة وطريقة التفصيل.


حياة مفتوحة

يندهش الرحالة السويسري لحضور المرأة الدمشقية في الحياة العامة وفي الأسواق، ويكيل المديح لجمالها. نساء جميلات بخناجر فضية، مرصعة بالحجارة الكريمة، للثريات منهن، يكتب "أحيانا يخترق السوق موكب من الخيالة، يقومون بتجريس أحد المحتالين لكي يكون عبرة لغيره ممن يحاولون الغش.

نقابل أيضاً عدداً كبيراً من النساء في السوق، أكبر من عدد الرجال نستطيع القول، ولكن لا يرى أي جزء من أجسامهن الملفوفة بالأردية الطويلة، النساء الثريات تراهن متبوعات في البازار بخدمهن من العبدات السود، وهن محجبات تماماً مثل سيداتهن.

كثير من النساء المسلمات والمسيحيات يتمتعن بجمال نادر المثال، والذي يتعزز عندما يرتدين ملابسهن الشرقية المتلألئة، جدائلهن الطويلة تنسدل على أكتافهن، المرصعة بالورود والجواهر وتردي واحدتهن الكردان الذهبي، وسترة من الحرير الأخضر ذات التماع يخطف الأبصار، والأكمام معلقة ومنسدلة حتى الأكواع، لتكشف عن أذرع مثقلة بالأساور الثمينة، ثم رداء من (الموسلين) الفضي، ثم تتحزم بشال من الكشمير، يبرز من الحزام خنجر فضي دقيق مخصص للنساء الثريات، مرصع القبضة بالحجارة الكريمة الدقيقة، ومطلي بالذهب أو الفضة، ثم سراويل عريضة تغطي الساقين حتى الكاحل المغطى بالخلاخيل الذهبية الرنانة.

بعض الفنون والصناعات متقدمة جداً في دمشق، منها مثلاً صناعة النسيج، وفن تقسية الفولاذ لصنع نصال السيوف والخناجر الدمشقية المعروفة والتي كانت مطلوبة، ولكن الآن وبعد أن توقفت حروب السيوف والخناجر تحولت صناعة الفولاذ الدمشقي إلى صناعة الأدوات الزراعية المفيدة.

باشا دمشق هو نفسه قائد موكب الحج، وصاحب اللقب الفخم (أمير الحج)، الذي سنواكبه حتى مكة (المكرمة) بعد زمن قليل، وهو مجبر أن يدفع مبالغ مالية للبدو لكي يتمكن من المرور الآمن في الصحراء.

في دمشق شارع لا زال يحمل اسم (المستقيم)، وهو بالفعل مستقيم كرمح ويبلغ من الطول ميلاً واحداً، عريض ومعبد بشكل جيد، تدخل إليه عن طريق القدس.

عادة عرض العجزة والمجذومين أمام الأغنياء المحسنين موجودة في كل المدن ومنها دمشق حيث تراهم غالباً على حواف الطرقات على حصير بالٍ أو على دكك خشبية يستجدون الصدقات وعطف المارة.

بشالك (ولاية) دمشق يضم تقريباً كل الجزء الغربي من سورية، يحده من الغرب سلسلة لبنان الشرقية، ويمتد حتى الفرات والصحراء، ويضم مدن دمشق وحمص وحماة وتدمر والقدس والخليل وبعلبك.


حوران

إلى الجنوب من دمشق يمتد سهل حوران الواسع، يبدأ موكب الحج بالسير في حوران منذ اليوم الأول الذي يغادرون فيه دمشق، ويمتد على مسافة عشرين مرحلة، حتى الجبال البازلتية التي تشرف على الجهة الشرقية لبحيرة طبرية، في الجنوب الشرقي ينتهي السهل في صحراء سورية الكبرى، سلسلة جبال الجولان تحده من الغرب، جبال حوران تشكل مصدراً لخشب السنديان، وسهوله مراعي سمينة، التناقض بين هذه الجبال وجبال الجولان من جهة وبين الصحراء القريبة من جهة أخرى زادت من روعة وجمال هذه الجبال.

أقام الموحدون في عدد من هذه الجبال، ولهم في القرى خلوات وعقَّال ويمكنهم ممارسة شعائرهم بكل حرية، على السفح الغربي لجبل حوران استطاع بيركهارت أن يحصي ليس أقل من مئتين من أطلال قرى على مسافة قريبة الواحدة من الأخرى، جميعها مبنية بالبازلت، جميعها سوداء، البازلت يعطي حوران هيئة استثنائية، ويزيده تفرداً أن السهل لا يحتوي على أي شجرة، هنا لا يوجد أي كهف أو مغارة، والصخور تقاوم المطرقة، ومع ذلك سيدهشنا وجود أبواب من البازلت في القرى، تنغلق بشكل محكم ومزودة بأذرع من البازلت أيضاً لإحكام إغلاقها.

في الجهة الجنوبية لجبل حوران تقع أطلال بصرى القديمة والعمارات الإغريقية والرومانية حيث كانت بصرى هي عاصمة (الولاية العربية الرومانية)، وعلى الرغم من تقادمها فأنها لا زالت أكبرى قرى حوران.

أرض سهل حوران خالية من الصخور، وتقريباً خالية من الحجارة، هنا يتم إنتاج أفضل قمح في سورية في أي مكان من السهل ترمي بذوراً تنمو بوفرة، إلا إذا كانت الأمطار شحيحة، ويصل ارتفاع القمح في هذا السهل إلى قامة كاملة، ولكن وعلى امتداد هذا السهل لا يوجد شجرة ولا حتى شجيرة، المناخ حار وجاف تماماً كما في الصحراء، السكان ينقصهم ماء الشرب والحطب، لذا يستعملون (الجلة) في إشعال النار، ويبنون بيوتهم من الطين ويسقفونها بالقصب، والسهل مسكون حيث يقدّر بوركهاردت عدد السكان ما بين خمسين إلى ستين ألف روح، العشب في حوران من الوفرة والطول بحيث إن روث الخيل يشكل درباً سميكاً.

يشكل سهل حوران مكان الإقامة المفضل للبدو، ابتداء من الشهر الخامس تغطي السهل خيامهمـ إذ يسعون في الصيف خلف الماء والمرعى، ويؤمنون مؤونتهم من الحبوب للشتاء، ويظلون في حوران حتى نهاية أيلول تقريباً، إذا كانوا في سلام مع الباشا يعسكرون في سلام حول القرى والآبار، وإن كانوا في حرب فإنهم لا يتجاوزون بصرى. ابتزاز عصابات اللصوص وقطاع الطرق من جهة، وشراهة الحكومة وشيوخ العشائر من جهة ثانية، جعلا الحياة شبه مستحيلة في هذا السهل الخصب، وكان هذا سبب هجرات متعاقبة، ولهذا السبب لا نرى في القرى الخصبة أي حديقة، ولا حتى حاكورة لزراعة الخضروات، ليس ثمة سوى قليل جداً من الحوارنة الذين ولدوا هنا ويموتون هنا.

كرم الضيافة للغرباء من العادات في هذه الجهات، تماماً كالعرب البدو، وفي كل قرية مضافة، أي ما يشبه الخان، حيث يتم استقبال الغرباء مجاناً، الشيوخ يتلقون مساهمات عامة لكي ينفقوا على هذه المضافات، ولهذا فإن الحوراني عندما يسافر في حوران لا يحمل معه زاداً ولا زواداً لأنه يعلم أنه على الرحب والسعة في قرى حوران، ولكأنه في بيته وأعز، أي مسافر في حوران يستطيع أن يطلب الضيافة في أي قرية ومن أي بيت بكل ثقة، ما إن يضع قدمه في المضافة حتى يفرشوا له، ويسقوه القهوة، ولا يتأخرون عليه في غداء أو عشاء.


مع البدو في الصحراء

في حماية فصيل من العرب المسلحين بالبنادق والرماح الطويلة، سافرنا باتجاه تدمر، على خطى السيدة استر شتانهوف، التي يقال إنها دفعت اثني عشر ألف فرنك للسماح لها بزيارة هذه الأطلال الشهيرة.

المرافقة، أبناء الصحراء، جميعهم يحملون بالإضافة للبنادق والقامات والمسدسات أرماحاً طويلة من خيزران مرن وقاسٍ، يشبه قصبة طويلة، هذا الرمح هو سلاحهم الرئيسي، مزين بالريش وخيوط الحرير، يحملونه في اليد اليمنى وحديده موجه إلى أعلى، والطرف الآخر يكاد يلامس الأرض، ولكنهم عندما يطاردون على خيولهم يحملونه أفقياً فوق أكتافهم، وعندما ترى ألعابهم الحربية تراهم يقذفون الرماح من مسافات بعيدة، وما إن يكاد الرمح يصل إلى هدفه حتى ترى الفارس البدوي في أعقابه بسرعة الطير يلتقطه من على الأرض دون أن يترك سرجه.

في طريقنا كنا نتوقف في بعض المحطات البدوية، وفي اليوم الثالث وصلنا إلى مضارب الشيخ الذي زودنا بالمرافقة. منذ وصولنا إلى هذه المضارب كان المشهد مليئاً بالحركة، الأولاد مع كلاب الصيد يطاردون الحجل، المتوفر في هذه السهول، هذا الطائر الذي لا يطير مسافة طويلة هو فريسة سهلة لهؤلاء الصيادين الشباب، وجدنا الشيخ وولديه ومعه ما لا يقل عن ثلاثين شيخاً من القبائل المجاورة ملتفين حول نار عظيمة، وكلما اقتربنا من المساء زاد عدد الضيوف.

بعد قليل حمل إلينا الحجل الذي صاده الأولاد ثم شويت على النار أمامنا ثم قام الشيخ بتوزيع أطرافها علينا لهذا جناح ولذاك فخذ وهكذا، ثم وضعوا أمامنا عسلاً وزبداً، وإنه لمن الممتع حقاً مراقبة الرجل الذي كان مكلفاً بمزج العسل بالزبد بإصبعه السبابة أمام أعيننا وبين الفينة والأحرى كان يلحس إصبعه وكان جزاء تعبه أن أكل نصف ما قدم لنا.

خروف كامل مشوي جاءنا بعد ذلك ليكتمل عشاؤنا، وكان الشيوخ يمررون العظام نصف مأكولة لمن بجانبهم دليل مودة متبوعة بعبارات ومجاملات تليق بالمناسبة.


أطلال تدمر

في اليوم السابع، بعد مسير متعب، وصلنا إلى هذه الأطلال الشهيرة وكثيرة المعجبين، لا نقابل في طريقنا سوى بعض القرى الفقيرة المتوحدة، على أرض بالكاد تعطي بعض العشب الكافي لإطعام قطعان الغزلان التي تهرب ما إن نقترب، في اليوم الأخير من رحلتنا الأرض لا زالت رملية بلا أشجار ولا ماء وقد أخذت تضيق بحيث لا يتجاوز عرضها عشرة أميال، على يميننا ويسارنا سلسلة من الجبال العقيمة، يخيل إلينا أن الجبال التي على يسارنا وعلى يميننا تلتقي في نقطة أمامنا في المدى على مسافة عشرة أميال أخرى من مكاننا هذا، ولكننا عندما وصلنا إلى ما كنا نعتقد أنه نقطة التقاء السلسلتين، وإذا به سهل يضم القنوات التي كانت تغذي المدينة بالماء، وعلى الجانبين ارتفعت أبراج مربعة ذات علو كبير.

ما إن اجتزنا هذه العمارات الجليلة حتى افترقت سلسلتا الجبال من جديد، لتكشف لنا عن عدد لا نهائي من الآثار والأطلال، وفيما وراء هذه الآثار تمتد صحراء على مد البصر حتى نهر الفرات بلا أي حراك، إنه لمن المستحيل أمام هذا المشهد أن يعبر الإنسان بالكلمات عن الأحاسيس التي تنتابه، إن آثار تدمر ذات جمال نادر، وتتجاوز في حجمها كل ما تحويه اليونان وإيطاليا معاً.

لا بد أنكم مندهشون أن يختار مكان قاحل كهذا لبناء مدينة فخمة مثل تدمر؟ أولاً، هناك نبعان ما زالا يعطيان ماء عذباً رقراقاً. ثانياً، إن هذا المكان بالذات هو سبب غنى تدمر، لأنها شيدت على خط التجارة القديم حيث بضائع الهند القادمة عن طريق فارس تمر من هنا، كذلك بضائع فينيقيا الذاهبة إلى آسيا تمر من هنا.

تم حصار تدمر على يد الإمبراطور الروماني (أورليان) والملكة زنوبيا أمضت بقية حياتها في روما. الشيء الوحيد الحي الآن في تدمر هو ثلاثون من البيوت الطينية الهزيلة، أقيمت في وسط المعبد، لتشكل تناقضاً حاداً ما بين عظمة وغنى المكان قديماً، وبؤس حاضره، حيث يزرع بعض الأعراب أشجاراً هزيلة وبعض الحبوب بالكاد تكفي لسد الرمق، وبعض رؤوس الماعز نرى بوضوح كم هو صعب أن تجد ما تتقوت به في هذه الصحراء التي تمتد إلى ما وراء البصر.

ورغم فقرهم فهم يدفعون الخاوة للبدو لكي يحموهم من وقت لآخر من هجمات الأتراك، ولكنهم على أية حال لا يشكلون هدفاً مغرياً لأحد، نساؤهم محجبات، أياديهن مصبوغة بالحناء، وشفاههن مصبوغة بالأزرق، حواجبهن بالأسود، أنوفهن وآذانهن مخرمة بكثير من الحلقات الذهبية أو النحاسية.

نلقي نظرة أخيرة على هذه الأطلال الجميلة، لن يكون سهلاً أن ننسى هذه القصور التي لم يتبق منها سوى الفناءات والحيطان، معابدها المهدمة، عواميدها المصفوفة كأنها صف أشجار ممتد إلى البعيد البعيد، هذه العواميد التي تتجاوز قاعدة أحدها قامة الرجل، ولكن يجب أن نترك تدمر ونتجه إلى حلب في رفقة حمايتنا العربية.

المساهمون