انتفاضة 1987.. ملثّمون قبل فيسبوك

انتفاضة 1987.. ملثّمون قبل فيسبوك

09 ديسمبر 2018
(من انتفاضة 1987 في فلسطين المحتلة)
+ الخط -

عندما انطلقت انتفاضة عام 1987، كنتُ في الصف الأول الابتدائي أبدأ أيامي الأولى خارج المنزل.

أذكر صبيحة ذلك اليوم تماماً: وصلنا إلى المدرسة في الصباح، كانت المحال التجارية مغلقة بشكل تام، وقفنا في الطابور الصباحي، لحظات قليلة اقتحم طلبة المدارس الثانوية مدرستنا، انهار النظام وانهارت سلطة مدير المدرسة، خرج الطلبة كلهم من المدرسة إلى الشوارع.

وصلتُ إلى المفرق الواصل بين المدرسة والمنزل، ورأيت مستوطناً إسرائيلياً مرعوباً يحمل سلاحاً رشاشاً من نوع "عوزي" ويطلق الرصاص في الهواء، في مقابل جماهير لا أعرف من أين جاءت. سرعان ما التحقت عربات عسكرية وبدا المشهد متجهماً ومخيفاً، اعتلى طلبة المدرسة سطح أحد الصفوف المدرسية وألقوا الحجارة على المركبات. كان يوماً مشهدياً بالغ العظمة والاندفاع، كنت بالكاد أستطيع تمييز ما يحدث، ولولا أن منزلنا قريب من المدرسة لما عرفت كيف أعود إليه.

كانت تلك اللحظة من الكثافة التي يستعصي على عقل طفل في السابعة أن يفهم تجلياتها، حطم الملثمون شبابيك سيارات الجيش، أُطلقت النيران وسقط المزيد من الشهداء، كان كل شهيد يسقط يضخ مياهً جديدة لعمر الانتفاضة المجيد. في هذا اليوم شاهدت للمرة الأولى ملثّمي الانتفاضة.

لم يكن الملثّم حينها شخصاً عادياً، كانت فكرة الملثّم نفسها تمرداً مكثفاً على سلطة جيش الاحتلال، ذابت صورة الجندي الإسرائيلي من وعي الناس كحاكم فعلي ومسيّر لحياتهم، انحلت ووقعت أرضاً، وجاء الملثّم محمولاً على روح الأسطورة، شعب مهزوم ومجروح في وعيه الوطني، أعاد له الملثّم صورة البطل المخلّص، اشتبكت الصورة مع الحلم، وصار ما صار.

كانت المشاركة في أحداث الانتفاضة مكلفة للغاية، لم يكن عملاً وطنياً مرفهاً، لا كاميرات تصوير تعلنك بطلاً، ولا فيسبوك يوثّق لحظة وطنية تكتفي بها ولن تكررها مرة أخرى. أن تكون أحد أفراد الانتفاضة يعني أن تعرُّضك للخطر في بُعده المتطرف وارد جداً؛ إذا لم تُقتل تصب وإذا لم تصب تعتقل وتضرب وتعذب وتكسر عظامك ويهدم منزلك.

لم تكن لحظة الانتفاضة لحظة رومانسية لكل من شارك بها، اندلعت الانتفاضة شتاءً، وذاق من اعتُقل أيامها مرارة التحقيق في الشتاء، وويلات الضرب في الشتاء، ومأساة التعذيب في الشتاء تحت المطر والبرد والعراء. كانت صناعة البطولة حينها صناعة معقدة ومضنية، محض ولادة صعبة لمرحلة من أشد المراحل الفلسطينية بهاءً وأندرها نوعاً وجودة، سلك فيها الشعب طريقاً وعرة كانت كفيلة بتسليط أضواء العالم عليه.

أعلنت "إسرائيل" أنها ستعتقل كل من شارك في الانتفاضة، شنّت حملة اعتقالات ضد كل من يتجاوز عمره الخمسة عشر عاماً، كنت في السابعة، قصيراً وبديناً وخائفاً، ولا أعرف شيئاً، سوى أن "الجيش" هم الأشرار. اقتحم الجيش منزلنا، طلبوا منا أن نقف أمامهم، وغادروا بسرعة، كانوا يبحثون عن قامة أطول، وملامح أشد صلابة.

اقتحم الجيش منزل جيراننا، أطل "جلال" ابن السابعة عشرة، برأسه من إحدى الغرف مسرعاً ومرعوباً وخائفاً من الاقتحام المفاجئ، لم يرتعب الجيش كما ارتعب جلال، لكن شهوة القتل عندهم كانت ضاغطة وملحة وغامرة لدى جندي مهزوم في روحه وعقله وقلبه، أطلق الجيش النار على جلال أمام غرفته، وعلى مرأى من أمه وأبيه وإخوته.

أطلق الجيش أكثر من عشرين رصاصة، لم يلتفت هؤلاء لتلك النظرة الصافية المتسائلة المنطلقة من عين الصبي الذي لا يعرف شيئاً عما يحدث في الخارج، كانت شهوة الضغط على الزناد أكبر من كل شيء، سقط العالم كله أمام العائلة المفجوعة بجلال، انسحب الجيش من المنزل مسكوناً بهواجس الانتصار والردع والتخويف مثل ضباع عمياء.

لم تكن لحظة الشعب شجاعة فحسب، ولعل سؤال الشجاعة أكثر ما أرّق ليالي قيادة جيش الاحتلال أيامها، ولم يكن الشعب فقيراً فحسب، ولعل سؤال اقتصاد الفلسطينيين، أكثر ما اشتغلت عليه قيادة الاحتلال كي تنفذ إلى خاصرة الشعب الرخوة، بل كانت نقاط قوة الانتفاضة في بساطة أدواتها ومتانة شعاراتها وغياب طموحات أفرادها الشخصية، كان الشعب فقيراً كما ينبغي لثورة نقية أن تضع أوزارها في مكانها الصحيح.

في تلك الأيام، عرفنا ماذا يعني أن نكون شعباً تحت الاحتلال، وأننا الشعب ذاته الذي قرر في تلك اللحظة أن يتحوّل من شعب بدا أنه مدجن يسعى خلف لقمة عيشه، إلى شعب قرر أن ينتفض. كانت الانتفاضة لحظة الفلسطيني الأسمى والأكثر كثافة ونقاء وتجلياً منذ خرج منكوباً ومهزوماً ولاجئاً إلى أصقاع العالم.

* كاتب من فلسطين

المساهمون