نقَدة الترجمة

نقَدة الترجمة

13 ديسمبر 2018
تفصيل من عمل لـ ماركوس غريغوريان/ أرمينيا
+ الخط -

عادةً ما تُولي دور النشر الكبرى الكتبَ التي تصدرها أهميةً إعلاميةً عند نشرها، فتتعقّبُها بحفلات توقيعٍ وتقديم، ويتكلّف خلالَها بعضُ النقّاد، عبر مجلات متخصّصة وصفحات ثقافية، بكتابة متابعات لها وأوراق تقديمية عنها، لكن نادراً ما تحفل هذه الدُّور ونقّادُها، خصوصاً المُراجِعين منهم وعارضي الكتب بعمل المترجمين، الذين يكادون يمرّون في عالَم الكتابة غيرَ مرئيّين.

والمعروف أنّ هناك اتجاهاً في نقد الترجمة الأدبية لا يكتفي بالإلحاح على ضرورة حياد المترجم في عمله، بل يطالبُه بأن يكون كائناً أثيرياً يُحَسّ به ولا يُرى، وأن يكونَ عملُه شفيفاً. لذلك تجد المترجِمَ، عند هذا الاتجاه، يُمتَدَح أكثرَ كلّما كان حضوره في غيابه أقوى، أي أنه كلّما محا كلّ آثاره كان أكثرَ دلالةً على اقتداره، حتى لكأنه المجرم الأكمل الذي يقترف جُرمَه، ولا يترك ما يدلُّ عليه بصفته الفاعل.

وهناك نظرية تستعرض الموقف أعلاه، ولعلّها من أشهر نظريات علم الترجمة، وتُشتهر في الاصطلاح العربي بنظرية اختفاء المترجم أو لامرئيته، وهي نظرية أفرد لها صاحبُها، لورانس فينوتي، كتاباً مهمّاً وبارزاً، وقام محمد عناني بترجمته إلى العربية منذ سنوات.

ويتهيّأ لنا أنّ الحديث عن لامرئية المترجِم يبدأ حين إخفاء كثير من دور النشر اسمَه بإغفال وضعِه على الغلاف، فتقتصر على رقنه بخطّ صغير ضمن الصفحة الداخلية، التي تُعرِّف بتاريخ الإصدار ودار النشر ورقم إيداعه القانوني.

في الحقيقة، يُعَدُّ مثل هذا الموقف موقفاً نقدياً، لأنه يكشف عن كون دور النشر دون أن تحرِّر نصّاً، أي بتفاديها التنويه بالمترجِم في الغلاف، تتحاشى الاعتراف به كاتباً شريكاً للمؤلِّف في عمله، وبأنه، بإعادته تحرير النص في لغة منقول إليها، يُقدِّمُ صورةً للمؤلِّف من منظور المترجِم. ونحن نعلم، استناداً إلى جوسيه ساراماغو، أن المؤلِّفَ يبني صورتَه في لغته التي يكتب بها فقط، فيكون كاتباً قومياً، وأن المترجِم هو الذي يبني الأدب الكوني.

لكنّ السؤال النقدي والتقويمي ليس من مهمّة دار النشر، بل هو من اختصاص النقّاد أولاً، وثانياً هو مهمّة مُراجِعي الكتب ضمن خانة المتابعات بالمجلّات الأدبية والصحافة. ولا غرو أنّ هؤلاء لا يعنيهم في شيء عمل المترجِم، فهم ليسوا بأقلّ اكتراثاً بعمله من الناشرين، لاقتصارهم على عبارات يطبعها التعميمُ في أغلب الأحوال، ولا ينظرون إلى العمل الجبّار الذي يقوم به الترجمان، الذي يُعَدّ قارئاً مثالياً.

لا يكتفي المترجِم بنقل النص من ثقافة إلى أخرى، عبر عملية ميكانيكية لا روح فيها، مثلما يتصوّر كثيرون، بل يُغامر باقتراح مفرداتٍ وتعابيرَ وأشكالٍ ثقافية لا مقابل لها في اللغة المنقول إليها، ويتجاوز ذلك إلى تحقيق أسماء الأعلام والأمكنة وضبط التواريخ والوقائع من خلال حواشيَ تُغني النص، كما يُقدّم لعمله بما يُعرَف بالترجمة الموازية، ليضعه في إطاره التاريخي أو الاجتماعي أو الأدبي إلخ... فتقوده أمور مثل هذه إلى اكتشاف بعض الارتباك في النص الأصل، مثلما يكتشف بعض النقّاد والقرّاء ثغرات من نوع آخر في النصوص الإبداعية.

لا يهمّ النقادَ ومُراجِعي الكتب المترجَمة في شيء الجَهدَ المبذول فيها، فيمرّون لماماً بها، متعلِّلين بعدم إتقانهم لغةَ المصدر. ولأنهم يختصرون عمَلَ المترجِم في تصوُّر تقليدي لا يعدو الدِّقة في النقل، يُغفلون الجانب الجمالي فيها، ويُفرغون كلَّ جهدهم في التحدُّث عن المؤلِّف وحْدَه بعوالِمه وتقنياته ورسائله الصريحة والضمنية وغير ذلك.

هكذا، لا يبقى أمام المترجِمين حالياً سوى الأمل في الرسائل الجامعية بما تُناقِش من أعمال ترجمية مهمّة، في إطار علمي خالص، وبما تُعيدُ من اعتبار لعمل التراجمة الريادي في تنوير المجتمع من جهة، ومن جهةٍ ثانية في إعادة التدوير الإبداعي للنصوص في غير لغتها ضمن فكر دورة الحياة.

المساهمون