جامعة هومبولدت.. أين مقاعد هيغل وبسمارك؟

جامعة هومبولدت.. أين مقاعد هيغل وبسمارك؟

08 ديسمبر 2015
(أمام المبنى الرئيسي، تمثال هامبولت، تصوير: همكي تسابي)
+ الخط -
في غرفها وساحاتها، وعلى مقاعدها ومكاتبها، وُلدت الفكرة الأولى لعظماء وعباقرة منذ القرن الثامن عشر. هنا مرّ هيغل وماركس وأنغلز وبسمارك وأينشتاين وبلان وهابر وغيرهم كثر. مرّوا مدرسين أو طلاباً . حصدوا 29 جائزة نوبل، في العلوم المختلفة. من خلال مبانيها الضخمة، القديمة والمرممة، تستعيد برلين، التي دُمّرت في حربين عالميتين، ذاكرتها.

في ثلاثة مجمّعات وسط العاصمة الألمانية، برلين؛ مِت ونورد وأدليرشوف، تتوزّع كلّيات جامعة هومبولدت التي تأسّست عام 1810، لتعتبر بذلك واحدة من أقدم جامعات ألمانيا.

الجامعة التي أسسها الفيلسوف الألماني ويلم فون هومبولدت وشقيقه الجغرافي ألكسندر فون هومبولدت، كانت معروفة باسم فريديريك ويلمز، غير أن اسمها تغير ليصبح جامعة هومبولدت في برلين عام 1949. تستقبل في غرفها الدراسية اليوم أكثر من 31 ألف طالب، نحو 5 آلاف منهم أجانب (باستثناء كلية الطب التابعة لها "شاريتيه").

يتراءى على بعد عشرات الأمتار من المبنى الرئيسي للجامعة في مجمع مِت، تمثال لعالم الفيزياء والطبيب والفيلسوف هيرمن فون هيلمولتز (1821 ـ 1894)، الذي درس على مقاعد الجامعة، ليزداد معه فضول الزائر لاستكشافها.

القادم من جهة فرانسوزيش شتراسي (الشارع الفرنسي) حيث صمدت كنائس ومبان عملاقة، تروي محطات فاصلة في التاريخ الألماني، شأن الكنيستين الألمانية والفرنسية ومسرح "كونزيرتوس برلين"، إلى مجمّع مِت، يلتقي مع مبنى كلية الحقوق لجامعة هومبولدت.

في الساحة الأمامية لهذا المبنى، وقعت واحدة من أبشع المجازر بحق الفكر البشري، إذ أُحرق أكثر من 20 ألف كتاب. يختفي أيّ "مجسم" أو رمز ظاهر للعيان يدلّ على وقوع هذا الحدث التاريخي. لكن ما أن يسقط النظر على أرضيتها، يلتقط لوحة معدنية كُتب عليها: في وسط هذه الساحة، أحرق النازيون في 10 مايو/أيار 1933، المئات من منشورات الكتاب والفلاسفة والعلماء. إضافة إلى اقتباس للشاعر الألماني هنريخ هاين يعود للعام 1820، أي قبل وقوع المحرقة بعشرات السنين، يقول: كانت هذه مقدّمة فقط. حيث يحرقون الكتب، يحرقون الناس في النهاية.

مع التقدّم أمتاراً قليلة، تستوقفك نافذة زجاجية في أرضية الساحة، تطل على غرفة تحتوي على رفوف بيضاء فارغة؛ النافذة في الأرض تشير إلى الماضي، والرفوف الفارغة تدلّ على اختفاء تلك الكتب.

مع الانتقال إلى المبنى الرئيسي، ترحّب بالزائر كلمات الفيلسوف والمؤرخ والاقتصادي الاجتماعي كارل ماركس، التي ترفع الدرج إلى غرف الدراسة. تقول: "الفلاسفة فسّروا العالم بطرق مختلفة. لكن تبقى المسألة الأهم في تغييره". في الطابق الأول، تتوزّع صور العباقرة الذين مرّوا في الجامعة، على الحيطان، يمنة ويسرةً.

ماركس وفريديريك أنغلز. ماكس فون لو وغوستاف هيرتز إيروين شرودينغر وماكس بورن، ماكس بلانك وألبرت أينشتاين وروبيرت كوش وأوتو هان. وفي الجهة المقابلة، صورة أوغست ويلم فون هوفمان إلى جانب صورة هيلموتز، وغيرهم كثر.

تتركّز في مجمّع مِت كليات العلوم الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية، ويعدّ الأقدم، والرئيسي، بين المجمّعات الثلاثة. أمّا مجمّع نورد، فيضم كليات علوم الأحياء وعلم النفس، وصمّمه المهندس كارل غوتارد لانغانز، الذي هندس بوابة براندنبرغ، القريبة من الجامعة. فيما يضم مجمّع أدليرشوف، كليات العلوم التطبيقية، الرياضيات والفيزياء والكيمياء، وإدارة الأعمال والإعلام، وأُنشأ حديثاً بين عامي 1998 و2003.

إضافة إلى العلماء والفلاسفة، عرفت الجامعة شخصيات سياسية بارزة، تلقت علومها على مقاعدها الدراسية، شأن "المستشار الحديدي" أوتو فون بسمارك، السياسي البروسي الذي كان له الدور الأساسي في توحيد الإمبراطورية الألمانية، وكان أول مستشار لها في عام 1871 ولغاية عزله في 1890، ورسخ القاعدة السياسية في العلاقات الدولية خلال القرن التاسع عشر "سياسة توازن القوى". المستشارة الحالية أنغيلا ميركل، أيضاً، تلقت دروسها الجامعية في هومبولدت، حيث يدرّس حالياً زوجها أولريخ ميركل.

البحث عن الغرف التي درس أو درّس فيها الفلاسفة والعلماء ليس بالأمر الهيّن. سؤال الموظفين والطلبة عنها لن يفيد بشيء. تبدو معرفتهم واهتماماتهم، مقتصرة على الإشارة لصور العباقرة القديمة المتناثرة على الحيطان، وعلى كليات الجامعة التسع، إلى جانب عشرة مراكز للأبحاث، تتوزّع على المجمّعات الثلاثة. فيما يحاول بعضهم المساعدة، عن طريق إرشادك إلى المبنى المقابل، حيث تقع غرفة دراسة واسعة، ولعلها الأوسع في الجامعة، هي "كينوزال". لكن التلميذ هناك يؤكّد بدوره، أنّه لا يدري أي غرف أو مقاعد أو مكاتب لهؤلاء العلماء والفلاسفة.

في المبنى الرئيسي، رجل في منتصف عقده الخامس، يسير برفقة سيدة تصغره سنّاً. لا شكّ في أنّه أستاذ في الجامعة ويعرف أين مقعد أينشتاين على الأقل. الرجل يتحدث الإنجليزية بطلاقة، يقول "لم تعد المقاعد الدراسية أو المكاتب أو الغرف التي درس فيها ماركس وأمثاله موجودة. دمرها الأميركيون والبريطانيون، للأسف. هذه ليست غلطتنا نحن، بل غلطتهم. ما بقي مكتب يتيم لهيغل يقبع في غرفة مجاورة لمكتب سكرتارية كلية الفلسفة. وهي وحدها من يملك مفتاح الغرفة".

السيّدة تهزّ برأسها لتوافقه الرأي. كان الرجل يشير بذلك إلى الدمار الذي لحق بالجامعة خلال الحرب العالمية الثانية، وهو ما يُلحظ من خلال معاينة المباني والغرف عن كثب، حيث يظهر الترميم الواضح فيها.

في كلية الفلسفة تتوزّع صور كبار فلاسفة القرنين الثامن والتاسع عشر، ممّن حاضروا أو درسوا في الجامعة. صور الفيلسوف الألماني (البروسي) جورج فريديريك هيغل (1770 ـ 1831)، الذي كان أستاذاً في هومبولدت، والفيلسوف فريديريك أدولف تريندلينبيرغ (1802 ـ 1872) والفيلسوف آرثر شوبنهاور (1788 – 1860).

سكرتيرة الكلية في مكتبها، لكن الغرفة، حيث مكتب هيغل، كانت مشغولة بالمؤتمر الأول للدراسات العليا، والدخول إليها يتطلب العودة مرّة أخرى، لإلقاء نظرة على شقوق المكتب القديم، حيث تزاوجت أفكار هيغل لتولّد "الحقائق المطلقة".

دلالات

المساهمون