فرانسوا فولني..ملهم نابوليون بدمشق في القرن الثامن عشر

فرانسوا فولني..ملهم نابوليون بدمشق في القرن الثامن عشر

18 ابريل 2020
واجهة من ساحة الجامع الأموي، دمشق (ويكيبيديا)
+ الخط -

قلنا في مرة سابقة عن الرحالة الفرنسي قسطنطين فرانسوا ڤولني (1170 - 1235 ه‍ـ / 1757 - 1820 م) إنه وضع كتاباً ضمنه أخبار رحلته إلى سورية ومصر، وإنه كان ملهم نابليون بحملته على الشرق.

هنا جزء ثان من هذه الرحلة يتحدث فيها عن ولاية دمشق في ذلك العصر أي أواخر القرن الثامن عشر، والمعلومات التي يوردها تكاد أن تكون نادرة لا تتحدث عنها المصادر التاريخية المعروفة، وخصوصاً بعض القصص المتعلقة بأسعد باشا العظم، وطريقة إقالته ثم قتله خنقاً في حمام سيواس.

فالمصادر التاريخية المعروفة لا تتحدث عن هرب أسعد باشا إلى الصحراء المجاورة لدمشق هو وعائلته، ولا تورد قصة الضريبة التي يتحدث عنها فولني، وعلى الأرجح أنه سمعها من شهود عيان عليها، وهي قصة تسجل لأسعد باشا الذي فضل أخذ أموال المتنفذين بدل أن يفرض ضريبة ظالمة على المسيحيين.


بشالك دمشق

بشالك دمشق، البشالك الرابع والأخير في سوريا، ويشتمل تقريبا على كل الجهة الشرقية (من سوريا)، حيث يمتد من المعرة شمالاً على طريق حلب وصولاً إلى الخليل في جنوب شرق فلسطين، ويحده من الغرب الجبال الساحلية، ومنابع نهر الأردن، ويتبع انحدار النهر مرورا ببلاد بيسان ويضم القدس ونابلس والخليل، ويحده من الشرق الصحراء حيث لا حدود واضحة ولكنه يمتد حيث يوجد الزرع والزراعة. في الغالب فإنه قريب من جبال الساحل فيما عدا تدمر التي تمتد لمسافة (خمسة أيام) باتجاه الشرق.

التربة والمحاصيل متنوعة، سهل حوران وسهل العاصي يضمان أخصب الأراضي فهي تنتج الحنطة والشعير والذرة والسمسم والقطن.
بلاد دمشق والبقاع الأعلى أرضهما محصبة فقيرة تصلح لزراعة الفاكهة والتبغ أكثر من الحبوب فالجبال مزروعة بأشجار الزيتون والتين والتوت وكذلك بالعنب في بعض المناطق حيث يصنع منه (النصارى) النبيذ، ويصنع منه المسلمون الزبيب.


أمير الحاج

الباشا يتمتع بكل الحقوق التي يضمنها له مركزه كخليفة للسلطان، لكن والي دمشق تحديدا يتمتع بميزة لا يمتلكها أحد من الولاة غيره إنها لقب أمير الحج الشامي العالي المقام والاحترام، فالمسلمون يعقدون كثيرا من الأهمية على رحلة الحج السنوية هذه بحيث إن الباشا الذي يقودها بسلام يتمتع باحترام وحرمة تشابهان تلك التي يتمتع بهما السلطان ذات نفسه، ويصير دمه حراما!

ولكن الباب العالي ينجح دائما في التوفيق بين هذه القاعدة وضرورة التخلص من والٍ وتجريده من منصبه ولكي لا يهدر دمه فإن الباب العالي يوعز بخنقه وهكذا يكون قد احترم الأعراف فلم يهدر دمه وفي آن يكون قد انتقم منه، ويوجد عدد من الأمثلة على هذا السلوك!
منحة الوالي من السلطان لا تتجاوز خمسين كيسا، وهو مكلف مع ذلك بكل مصاريف رحلة الحج التي تقدر تكاليفها بالف كيس، وتتكون من ذخيرة من الشعير والحنطة والارز،.. إلخ، وكذلك مصاريف كراء الجمال المرافقة للقافلة.

وهناك أيضا ثمانية عشر كيسا تدفع للقبائل البدوية التي على طريق الحج، من أجل ضمان مرور آمن للقافلة، ويعوض الباشا مصاريفه الثقيلة هذه من (المال ميري) وهي الضريبة المفروضة على الأرض والتي يشرف على تحصيلها الدفتردار أي كبير المحاسبين، وهناك من الينكجرية من يدفع للدفتردار لكي يضمن أن يكون ضمن قافلة الحج.

الباشا هو الوريث الشرعي والوحيد لكل من يموت من الحجاج أثناء رحلة الحج، وهذا الأمر ليس قليل الأهمية إذا علمنا أن عددا كبيرا من الأغنياء دائما ما يشكلون أغلبية قافلة الحج، أخيرا فإن لدى الباشا صناعته الخاصة وهي إقراض التجار بالفائدة، ويمكنه أيضا أن يجرس من يريد ويشلحه أمواله وهذا يسمى (البلص).

تتألف القوة العسكرية المرافقة للباشا من سبع مائة ينكجري في حالة جيدة من التسليح والعتاد، ومن ثمانمائة أو تسعمائة خيال، وفي سوريا تعتبر هذه القوة العسكرية ضرورية ومهمة رغم صغرها، فهي التي ستقمع من تسول له نفسه الاعتداء على قافلة الحج، وايضا للحفاظ على الخزنة والأموال الطائلة التي تكون بحوزة القافلة.

في كل عام وقبل موعد مسير قافلة الحج بثلاثة أشهر يقوم الباشا بما يسمى (الدورة) وهي قافلة مسلحة بقيادة الباشا على جميع مدن وقرى ولاية دمشق وتوابعها لجمع ما يسمى (الجردة) وهي مؤونة قافلة الحج في أثناء عودتها، وهي مهمة ليست سهلة ولا تنتهي دائما بلا مشاكل بسبب تعديات ينكجرية الباشا وطمعهم الزائد فينتفض القرويون وغالبا ما يدفع المنتفضون من دمهم ثمن هذا الغضب، وسكان نابلس وبيت لحم والخليل على الأخص معتادون على هذا النوع من الانتفاضات، ولكن الباشا لا ينسى عندما تسنح الفرصة أن يجعلهم يدفعون ديونهم ضعفا مضاعفا ومع الفائدة أيضاً.


عائلة العظم

ولاية دمشق بسبب موقعها الجغرافي المتاخم للصحراء هي الأكثر عرضة لهجمات البدو، ومع ذلك فإننا نلاحظ أن ولاية دمشق هي الأقل هجرة وخرابا من باقي الولايات، والسبب أن الباب العالي بدل أن يجعل ولاية الباشا على دمشق مؤقتة مثل باقي الولايات فإنه أعطاها له مدى الحياة.

في هذا القرن (الثامن عشر) سيطرت عائلة واحدة من أغنياء دمشق على منصب الوالي على مدى نصف قرن (عائلة العظم) الأب وثلاثة من أبنائه تعاقبوا على الحكم آخرهم كان أسعد باشا الذي تكلمنا عنه عند الحديث عن ظاهر العمر والذي استمر في الحكم مدة خمسة عشر عاما قام خلالها بقيادة قافلة الحج بكل أمان.

وقد غرس في جنوده نوعا من الطاعة والنظام، هوايته، مثل معظم الناس في تركيا هي كنز الأموال، ولكنه لا يجعلها مكدسة في الصناديق بل يقرضها مقابل فائدة محددة.

تروى عن أسعد باشا الحكاية التالية التي تعطي فكرة عن شخصيته، يقال إنه كان في يوم ما بحاجة إلى المال فاقترح عليه المحيطون به أن يفرض (ضريبة) على النصارى وعلى صناع النسيج، فسألهم أسعد باشا: وكم تتوقعون أن تجلب لنا هذه الضريبة؟ من خمسين إلى ستين كيسا أجابوا، فقال أسعد باشا: ولكنهم أناس محدودو الغنى فمن أين يأتون بهذا القدر من المال؟ فقالوا يبيعون جواهر وحلي نسائهم يا مولانا! فقال أسعد باشا: وماذا تقولون لو حصلت المبلغ المعلوم بطريقة أذكى من هذه؟!


تلفيق تهم

في اليوم التالي قام أسعد باشا بإرسال رسالة إلى المفتي لمقابلته بشكل سري وفي الليل وعندما وصل المفتي قال له أسعد باشا: نما إلى علمنا أنك ومنذ زمن طويل تسلك في بيتك سلوكا غير قويم وأنك تشرب الخمر وتأكل لحم الخنزير وتخالف الشريعة وأن أسعد باشا في سبيله لإبلاغ اسلامبول ولكنه فضل أن يخبره أولا حتى لا يكون للمفتي حجة عليه؟!

المفتي المفجوع بما يسمع أخذ يتوسل ويعرض علنا (كما هي الحال هنا) مبالغ مالية على أسعد باشا لكي يطوي الموضوع فعرض أولا ألف بيستار، فرفضها أسعد باشا، فقام المفتي بمضاعفة المبلغ، ولكن أسعد باشا رفض مجددا، وفي النهاية تم الاتفاق على ستة آلاف بيستار!

وفي اليوم الثاني قام باستدعاء القاضي وأخبره بنفس القصة، مضيفا أنه يقبل الرشوة، ويستغل منصبه لمصالحه الخاصة، وأنه يخون الثقة الممنوحة له؟! وهنا صار القاضي يناشد الباشا ويعرض عليه المبالغ كما فعل المفتي فلما وصل معه أسعد باشا إلى مبلغ مساوي للمبلغ الذي دفعه المفتي أطلقه ففر القاضي سريعا وهو لا يصدق بالنجاة!

بعدهما جاء دور المحتسب، وآغا الينكجرية، والنقيب، وشيخ التجار، وكبار أغنياء التجار من مسلمين ونصارى، ثم جمع خواصه الذين أشاروا عليه أن يفرض ضريبة جديدة لكي يجمع خمسين كيسا وقال لهم: هل سمعتم أن أسعد باشا قد فرض ضريبة جديدة في الشام ؟ فقالوا: لا ما سمعنا، فقال ومع ذلك فها أنا قد جمعت مائتي كيس بدل الخمسين التي كنت سأجمعها لو استمعت لكم، فتساءلوا جميعا بإعجاب كيف فعلت يا مولانا؟! فأجاب: إن جز صوف الكباش خير من سلخ جلود الحملان!!


عزل أسعد باشا

بعد خمسة عشر عاما من الحكم تمت إزاحة هذا الرجل عن شعب دمشق على إثر مؤامرة، والقصة تروى على الوجه التالي في العام 1755 ميلادية توقف عبد خصي (الكزلار آغا أحمد أبو قوف، وكزلار آغا أي مسؤول الحرملك) من حرملك الباب العالي في دمشق في طريقه إلى مكة لأداء فريضة الحج، فاستقبله أسعد باشا استقبالا عاديا، وفي طريق العودة لكي لا يتكرر مع العبد ما حصل له في القدوم فقد غير طريقه ورجع عن طريق غزة التي كان واليها حسين باشا والذي عمل استقبالا ملوكيا للخصي.

وعندما رجع الخصي إلى اسلامبول لم ينس هذين الاستقبالين استقبال أسعد باشا في دمشق واستقبال حسين باشا في غزة، وقرر على أثرها أن يتآمر على أسعد باشا ويعاقبه وبالفعل فقد نجحت مؤامراته وتم نزع القدس عن بشالك دمشق وضمها لغزة في العام 1756، في السنة التالية حصل حسين باشا مكي على دمشق نفسها، أما أسعد باشا فقد التجأ إلى الصحراء ومعه جميع أهل بيته خوفا من التجريص والتشليح!

وعندما جاء موعد قافلة الحج، قام حسين باشا مكي بحسب ما يفرض عليه مركزه الجديد كوال لدمشق أن يقود قافلة الحج الشامي، ولكن في طريق العودة حصل نزاع بينه وبين القبائل البدوية لأنه رفض أن يدفع الصرة المقررة لهم، فقاموا بمهاجمته بشراسة والقضاء على حاميته وحراسته ثم قاموا بتشليح الحجاج وتركهم في الصحراء ضحية الجوع والعطش والضواري فمات منهم عشرون ألفا.

وقامت عائلات هؤلاء القتلى تطالب بالثأر من أمير الحج وبتأديب القبائل البدوية، طالب الباب العالي أولا برأس حسين باشا مكي ولكنه كان مختبئاً بشكل جيد فلم يعثر عليه، وكان خلال فترة اختبائه يتآمر مع حاميه في اسلامبول الكزلار حيث ذكر خبر امتلاك حسين باشا مكي على رسالة بخط أسعد باشا العظم (حقيقية أم مزيفة؟!)

يحرض فيها البدو على حسين باشا مكي وقافلة الحج، وهنا دارت الدوائر وتمت تبرئة حسين باشا واتهام أسعد باشا وصار الباب ينتظر الفرصة المواتية للتخلص منه، أما ولاية دمشق فبقيت خالية وهيبة الدولة مهانة، وحسين باشا لا يستطيع إعادة الاعتبار لها.


جتجي باشا

وكان الباب العالي يرغب بإعادة تامين طريق الحج، وترميم هيبة الدولة، فاتجهت أنظار الباب العالي إلى رجل دموي، يقتضي التاريخ وتقتضي الأعراف أن أقول في حقه كلمتين: هذا الرجل اسمه عبد الله الجتجي ( الشتجي ) ولد قرب بغداد في ظروف لا نعلم عنها الشيء الكثير، والتحق في شبابه برجال الباشا.

وقضى جل سنوات شبابه في المعسكرات، وفي الحرب كان فارسا عاديا أثناء الحملة على الفرس ضد الشاه (نادر شاه) وكانت الشجاعة والذكاء سمتين بارزتين في عبد الجتجي فأخذ بفضلهما يترقى في الرتب إلى أن وصل إلى رتبة باشا وصار والي ولاية بغداد، وعندما وصل إلى منصبه هذا فإنه لجأ إلى الحزم والحكمة في بسط السلام على البلاد الداخلية والخارجية.

الحياة العسكرية البسيطة والمتقشفة التي كان يحياها لم تكن تجعله بحاجة إلى الكثير من المال، ولكن الضباط الكبار في اسلامبول لم يعجبهم هذا التقشف وكانوا ينتظرون اللحظة المناسبة لنقله من منصبه، وحانت الفرصة عندما علموا أن عبد الله قد حصل على تركة أحد التجار الأثرياء وتقدر بمائة ألف جنيه فأبلغوا الوزير الذي طالبه بها فورا، فاعتذر عبد الله بأنه قد صرف مرتبات العسكر من هذه التركة وطلب مهلة للتصرف، ولكن الوزير رفض إعطاءه هذه المهلة وطالبه مرة ثانية بالمبلغ فاعتذر عبد الله بأن المبلغ لم يعد في تصرفه، فما كان من الوزير إلا أن أرسل إلى بغداد عبدا خصيا يحمل (خطا شريفا) سريا مكتوبا فيه أن يقطع راس عبد الله الجتجي!

وادعى هذا الخصي عند وصوله إلى بغداد أنه قد حضر من أجل النقاهة ولكن عبد الله الذي خبر كل حيل والاعيب الباب العالي أرسل من يفتش خيمة الخصي بعد أن دعاه إلى ضيافته وبالفعل فقد عثر رجال عبد الله على الخط الشريف مخبأ في طيات ملابس الخصي فعادوا بسرعة إلى سيدهم الذي كان يجالس الخصي وطلبوه إلى غرفة جانبية وسلموه الخط الشريف فكتم عبد الله غيظه.

وعاد إلى مجلسه مع الخصي وتابع الحديث معه كأن شيئاً لم يكن فقال متسائلاً: اسمح لي يا كزلار آغا أن أستغرب سبب رحلتكم من اسلامبول إلى بغداد من أجل النقاهة فالهواء هنا أقل نقاء من هواء اسلامبول وإني متأكد أنك لم تأت إلى هنا من أجل النقاهة فقط فاصدقني القول، فرد العبد: لقد طلب مني أيضا أن أطالبكم بمائة الف جنيه، وماذا ايضأ؟ سأل عبد الله، ثم أضاف في هدوء: ألم تأت من أجل رأسي أيضا!؟
اسمع يا كزلار آغا أنت سمعت عني ولا شك وتعرف أني أحترم كلمتي وأني أعطيك وعد شرف مني أن أطلق سراحك دون أن تتعرض لأذى إن قلت الصدق، أما الخصي فاستمر على إنكاره وأورد قصة طويلة مفادها أنه لا يحمل أي ضغينة شخصية لعبد الله، فقال عبد الله (حلفتك برأسي ) أن تصدقني القول، فاستمر العبد على إنكاره، فقال عبد الله بحياة رأس السلطان اصدقني القول، ولكن العبد استمر في الإنكار، عندها
أخرج عبد الله الخط شريف وأراه للعبد وهو يقول: أتعرف هذه الورقة أن تعرفها جيدا هكذا اذا تحكمون على الناس في اسلامبول؟! ما أنتم سوى مجموعة من الأوغاد تتلاعبون بأرواح وحيوات الناس، السلطان والوزير يريد رأسا، حسنا، فلنرسل له رأس هذا الكلب، وقطع رأس الكزلار وأرسله إلى الوزير في اسلامبول ثم هرب إلى جبال الأكراد، وبعد فراغ السلطة في دمشق جاءه العفو السلطاني في مكانه في جبال الأكراد مع تكليف بولاية دمشق، وكان عبد الله عند وصول العفو والتكليف قد ضاق ذرعا بغربته وكان مفلسا تماما فقبل التكليف فورا وسار إلى دمشق على رأس مائة فارس، وعندما وصل إلى حدود ولاية دمشق سمع أن أسعد باشا العظم كان يعسكر في هذه النواحي.

وكان قد سمع عن أسعد باشا أنه أحد رجالات سوريا الكبيرة فرغب برؤيته، فتنكر واخذ معه ستة من فرسانه ودخل معسكر ابن العظم على هذه الحالة وطلب مقابلته ولم يتطلب الأمر كثيرا من المراسم في هذا المعسكر فإذا به وجها لوجه مع أسعد باشا الذي سأله بعد التحيات والسلامات: من أين أنت قادم وإلى أين ذاهب؟

فقال عبد الله إنهم مجموعة من الفرسان الأكراد يبحثون عن خدمة وقد سمعوا أن الجتجي سيكون واليا على دمشق فجاؤوا يعرضون خدماتهم عليه
وهل تعرفون الجتجي ؟
نعم.
وأي رجل هو، هل يحب المال؟!
لا، جتجي لا يحب المال، ولا الفراء ولا الحرير ولا الجواهر ولا النساء!
ماذا يحب اذن؟!
يحب السلاح الجيد، والخيل الجيدة الأصيلة والحرب، يحب العدالة ويفخر بها، يحمي الأرامل والأيتام، يقرأ القرآن، ويتقوت على السمن واللبن!
هل هو كبير في السن؟!

سنه أصغر بكثير مما يبدو عليه، بسبب التعب والهموم، وهو مغطى بالجراح، فقد تلقى ضربة سيف جعلته يعرج على قدمه اليسرى، وضربة أخرى على كتفه الأيمن، وهنا وقف عبد الله وهو يقول، أنظر من رأسي إلى أخمص قدمي هذه هي صورتي!

ذهل أسعد باشا من هول المفاجأة وأيقن بالهلاك ولكن عبد الله طمأنه قائلا: أخي، اطمئن أنا لست مرسلا من باب اللصوص العالي ولم آت لأخونك أو أخدعك على العكس فإني اذا استطعت أن أخدمك في شيء فأرجو أن تطلبه مني لأننا أنا وأنت في نفس الدرجة عند (أسيادنا) لقد طلبوني لتأديب العربان وعندما يشفون غليلهم سيعودون للمطالبة برأسي، الله أكبر، وقضاؤه سيمضي!

دخل عبد الله الجتجي إلى دمشق وهو يحمل هذه المشاعر، فقام بإرساء النظام، وقمع رجال الينجكرية المتمردين، وقاد قافلة الحج الشامي وسيفه في يده دون أن يدفع بيستارا واحدة للعربان، وأثناء حكمه الذي استمر عامين تمتعت البلاد بأقصى درجات الهدوء والأمان، حتى أن الناس كانت تنام وأبوابها مفتوحة وهذا ما يقوله الآن (1785) أهل دمشق أنفسهم، عبد الله بنفسه كان يتنكر في زي بائس ليتأكد من تطبيق العدالة.

ويروى عنه في هذا حكايات، فيقال إنه عندما كان يقوم بـ(الدورة) وكان في القدس فإنه منع جنوده من أخذ أي شيء من الناس، وأمرهم بان يدفعوا ثمن ما يأخذون، وفي أحد الأيام كان يمشي في السوق متنكرا في زي فقير ويحمل بين يديه طبق عدس صغير، فرآه أحد الجنود وطلب منه أن يحمله على ظهره.

وبعد قليل من الممانعة وافق عبد الله باشا المتنكر أن يحمل الجندي على ظهره وقد قرر أن يعاقبه ولكن جنديا آخر تعرف على الباشا المتنكر وحذر زميله ففر هذا في أحد الشوارع الجانبية، فانزعج عبد الله باشا لإفلات هذا الجندي الظالم من بين يديه، ولكن الجندي الخبيث لن يهرب طويلا من عبد الله باشا حيث فاجأه يسرق الخضر من حاكورة امرأة فقيرة فقام بقطع رأسه في الحال وفي عين المكان!

أما عبد الله باشا فلم يخطئه القدر الذي توقعه لنفسه، فبعد أن نجا من عدة محاولات اغتيال، نجح ابن أخيه بتسميمه، وقد رآه عبد الله وهو على فراش الموت فناداه: أيها البائس! لقد أغواك الأوغاد، قتلتني لتتمتع بماذا؟ّ إني أستطيع قبل أن أموت أن أحطم كل آمالك، وأعاقبك على جحودك، ولكني لن أفعل أتعرف لماذا؟! لأني أعرف الباب العالي جيدا، هم الذين سيأخذون بثأري منك!

ولقد صحت نظرية عبدالله باشا الجتجي فما أن مات حتى وصل (قبجي) يحمل أمرا بشنق ابن الأخ القاتل، إن تاريخ الباب العالي يبرز بوضوح تفضيله للخيانات في تصفية الحسابات ولكنه في نفس الوقت كان يعاقب الخائن.

بعد الجتجي تعاقب على ولاية دمشق كل من (شلق؟) وعثمان ومحمد ودرويش ابن عثمان الذي شغل منصب الوالي في العام 1784 لم يكن يتمتع بمواهب والده ولكنه حافظ على (الطبيعة الاستبدادية) له، وهنا نورد هذه الرواية التي تستحق بالفعل أن تذكر: في شهر نوفمبر من العام 1784 قامت إحدى القرى المسيحية (الروم) بدفع ما عليها من مال ميري، ولكن جرى مطالبتها بان تدفعه للمرة الثانية، فقام الشيوخ بمخاطبة المحاسب الذي قبض منهم مال ميري فأنكر ما يدعيه أهل القرية.

وفي الأيام التالية قامت مجموعة من الجند بمهاجمة القرية وقتل أكثر من ثلاثين شخصا فيها، الفلاحون المساكين حملوا رؤوس قتلاهم وتوجهوا إلى دمشق يطلبون العدالة من درويش الذي – بعد أن استمع لهم – قال لهم بان يضعوا رؤوس القتلى في كنيسة الروم الارثوذكس إلى حين انتهائه من التحقيق في هذه الحادثة، بعد أيام بدأت رؤوس القتلى بالتعفن والتحقيق لم ينته بعد فكان لزاما دفن هذه الرؤوس ولكن الدفن يحتاج إلى تصريح من الباشا ولم يتمكن الفلاحون من الحصول على التصريح إلا بعد أن دفعوا أربعين كيسا (خمسين الف جنيه)!


الباشا الجزار

منذ العام الماضي (1785) يتمتع أحمد باشا الجزار بقرار إداري بان يسدد مال ميري إلى الباب العالي مباشرة بعد أن كان يسدده لدرويش وهو الآن يحكم في دمشق ويطالب كما يقال بضم حلب إليه ولكن الباب العالي رفض هذا الطلب الذي سيجعله الحاكم المطلق لسوريا الكبرى، عدا عن أن الباب العالي كان مشغولا بـ ( القضية الروسية ) التي لا تجعله مرتاحا في اتخاذ القرارات: كما أنه قلق قليلا من تمرد موظفيه، ولكن التجربة علمت الباب العالي انهم أخيرا يقعون جميعا في الشبكة! والجزار ليس استثناء رغم أنه يمتلك الكثير من المواهب والبراعة والدهاء، ولم يكن طلب الجزار ضربا من الخيال أو تمهيدا لثورة كبرى.

الطريقة التي يسلكها الجزار في الحكم هي نفسها طريقة كل من سبقوه: لا يهتم بالشؤون العامة إلا بقدر تداخلها مع مصالحه الشخصية، الجامع الكبير الذي بناه في عكا كان (محض غرور) والذي تكلف بناؤه ثلاثة ملايين من الفرنكات دون أن يكون له أي (مردود)، أما السوق المغطى فهو أكثر فائدة حيث الأراضي الزراعية على مرمى طلقة بندقية من عكا، أما معظم مصروفاته فهي على إنشاء الحدائق والحمامات وعلى جواريه وقد كان يمتلك العام الماضي ثماني عشرة منهن، وهاته الجواري هن في الحقيقة ترف مفترس (يكلفن كثيراً).

والآن بعد الشبع والتقدم في السن فإنه تعلم أن يقبض يده ويكدس الأموال وهذا ما خلق له كثيرا من الأعداء بين رجاله هذه المرة، وقد حاول بالفعل اثنان منهم أن يغتالاه ولكنه نجا من طلقات طبجاناتهم، عدا عن حقد الناس وطمع الباب العالي فإن هذا هو كل ما استفاده الجزار من تكديس الأموال.


وصف دمشق

لنعد الآن إلى وصف هذه الأماكن الرائعة في ولاية دمشق، مبتدئين بمدينة دمشق ذاتها وهي عاصمة الولاية ومقر الباشا، والعرب يسمونها الشام، حسب عاداتهم في منح اسم الإقليم للعاصمة، أما الاسم الشرقي القديم للمدينة أي (دمشق) فهو غير معروف إلا للجغرافيين، هذه المدينة تقع في منبسط كبير مفتوح في الوسط على جهة الشرق الصحراوية، وفي الغرب والشمال يضيق بواسطة الجبال القريبة.

ويأتي من هذه الجبال عدد من السواقي والوديان تجعل من مدينة دمشق المدينة الأكثر ارتواء والأكثر زهاء في مجمل سوريا والعرب يتحدثون عنها بحماس منقطع النظير ولا يتوقفون عن امتداح خضرتها ونضارة بساتينها ولا عن وفرة وتنوع غلالها من الفاكهة، وكذلك عن العدد الوفير من قنوات المياة الجارية، وعذوبة ينابيعها وغزارتها، وهي ايضا المكان الوحيد الذي يضم (بيوت المتعة) في هذا الريف الخالي تشكل دمشق حالة استثنائية.

عن باقي التفاصيل، فالتربة فقيرة محصبة ومحمرة فلا تصلح كثيرا للحبوب، ولكن هذه النوعية من التربة هي الأكثر ملاءمة للأشجار المثمرة، لا يوجد مدينة أخرى غير دمشق تحوي هذا العدد من القنوات والينابيع في كل بيت (بحرة) وجميع المياه القادمة إلى دمشق يغذيها ثلاثة روافد لنهر واحد الذي بعد أن يسقي البساتين يتابع سيره ليصب على مسافة عدة مراحل إلى الجنوب في مستنقع صحراوي يسمى ( بحيرة المرج ) وبهذه الصفات فلن نجد أحدا يجادل بأن دمشق هي أجمل مدن (السلطنة العثمانية).

بقي شيء أخير يتعلق بالصحة يجب الإشارة إليه، يشتكي الدمشقيون – ومعهم كل الحق – من المياه الباردة البيضاء لنهر بردى، ويقولون إنها السبب في بياض أجسامهم وإن هذا البياض دليل مرض وليس دليل صحة لأنه بياض باهت، أما الإكثار من أكل الفاكهة وخصوصا المشمش في الصيف فإنه يخلق حالات من الحمى المتقطعة والزحار.

امتداد دمشق طوليا أكبر بكثير من عرضها، السيد (نيبور) الذي قام بعمل المساحة لمدينة دمشق يقول إن مساحتها تقارب ألفين ومائة وثلاثة وخمسين سقفا، وهذا يعني أن قطرها أقل بقليل من مرحلة ونصف، واذا اعتمدنا هذه الإحصائيات وقارناها بحلب فإنني أقدر عدد سكان دمشق يقارب الثمانين ألفا، غالبيتهم العظمى من العرب، ونعتقد أن عدد النصارى يقارب خمسة عشر الفا متعددي الكنائس، الأتراك لا يتحدثون عن الدمشقيين دون أن يقولوا إنهم الأسوأ من بين شعوب الإمبراطورية، والعرب يلعبون على الكلمات وهم يرددون المثل التالي (شامي شومي وحلبي شلبي).

الدمشقيون يكرهون الفرنسيين، ولا يمكنك بكثير من الراحة التجول في دمشق بملابس فرنسية، كذلك تجارنا فإنهم بالكاد أقاموا موطئ قدم لهم في هذه المدينة، كذلك نجد مبشرين وطبيبا غير معلن، هذا الكره للأجانب سببه ارتباط دمشق بمكة، ويقول الدمشقيون إن مدينتهم مشرفة لأنها باب من أبواب مكة، وهذا صحيح فإنه في دمشق يتجمع الحجاج من شمال آسيا، كما يجتمع في القاهرة حجاج أفريقيا، في كل عام يتراوح عدد الحجاج بين ثلاثين وستين ألفا، كثيرون منهم يسيرون أربعة أو خمسة أشهر قبل الموعد، أما الغالبية العظمى فلا تصل سوى بعد نهاية رمضان.

وفي هذه الأيام تشبه دمشق سوقا ومهرجانا كبيرا، لا نرى سوى الغرباء من مجمل أنحاء تركيا، وحتى من فارس، ونرى عشرات آلاف البهائم من جمال وخيول وبغال، محملة بالبضائع، وبعد انقضاء عدة أيام في التحضيرات ينطلق موكب الحج الشامي بمحاذاة الصحراء ويصل إلى مكة في خلال أربعين يوما تقريبا، وبما أن طريق الحج يمر بأراضي قبائل مستقلة من العربان فإنه يجب أن يصير التفاهم معهم بان يزودوا قافلة الحج بالأدلاء كذلك يؤمنون لها الحماية، وغالبا ما تحصل نزاعات بين شيوخهم على هذه الأمور، فيستغل الباشا أمير الحج هذا الأمر ويحاول أن يفاصل في السعر، في الغالب فإن قبيلة السردية التي تمتد خيامها على طول سهل حوران هي المرشحة فيقوم الباشا بإرسال قطعة سلاح وعباءة وخيمة إلى الشيخ وهذه الهدية تعني (اننا اتخذناك قائدا للقافلة) ومن هذه اللحظة يقوم الشيخ بتأمين الجمال بأسعار معقولة من قبيلته والقبائل الحليفة ومن ضمن العقد أن لا يتم التعويض عليه في حال نفوق اي من هذه الدواب.

وتحتاج القافلة في السنة العادية إلى عشرة آلاف جمل وهو ما يشكل موردا مهما من موارد قبائل العربان، ويجب أن لا يظن بأن هذه الأموال التي تدفع وهذا التعب بدافع الإخلاص وحده، هناك حقيقة أخرى يعرفها كل حاج في هذه القافلة ألا وهي التجارة، عندما يقوم الحاج من مدينته يحمل معه بضائعها ويقوم ببيعها على طريق الحج وفي مكة ايضا تتم المبادلات فتجد شالات من كشمير ولؤلؤا من البحرين وقهوة من اليمن وبهارات من الهند، في بعض الأحيان تقوم بعض القبائل المتمردة بتشليح التجار والحجاج ولكن في غالب المرات تعود القافلة إلى دمشق وقد حقق الحجاج غايتهم.

دلالات

المساهمون