نوافذ غزّة مفتوحة هذا المساء

نوافذ غزّة مفتوحة هذا المساء

19 فبراير 2019
(كارل شكمبري)
+ الخط -

يقولون عليّ أن أواصل

يقولون عليّ أن أواصل يا أمي،
يواصلون نفث الأمر
بحركة كليشيّة بلهاء
يصرخون "تحرّك"
لكن إلى أين؟
إلى ماذا؟
وإلى مَن؟
"واصِلْ"، يُلحّون
"لا يمكنك الاستسلام"
ولكن هُم مَن يستسلمون.

دعنا نعود إلى يوم كنّا فيه أطفالًا جميلين
نهرول إلى مراع مهجورة
تستعدّ لموت عقيم
في أكفان جافة
دعنا ننفصل عن الحبل السري الذي يمنحنا السّعادة
وننتقل إلى برودة الغرف السريرية المبتذلة
التي تردِّدُ الهُراء كالببّغاء
هراء لا معنى له
بأنّ عليّ بدلًا من اليأس
أن أخرج أقوى،
الندوب لا تجعلك أكثر قوة،
فهي مجرد علامة
على سقوط رُزْنامتكَ الآفلة.

لن أذهب إلى أيّ مكان
بإمكان العالم مواصلة دورانه
وهرائه
أما أنا فمتعب جداً
وباق هنا
ولن أذهب إلى أيّ مكان.


■ ■ ■


ليلةٌ صيفيّةٌ في منتصفِ فبرايرَ غزّي

المولّدات مطفأة
فقد عاد الضوء من جديد
صمت متقطع
يتخلّله صوت مياه الريّ لدى الجيران
قطّان يُزمجران
في لحظة غضب عارمة
والحاج أبو نضال
تارةً يغنّي، تارةً يصفّر
على وقع خطوات شبشبه
في الواحدة صباحًا
في طرقات غزّة الرملية.

رجلٌ ينتظر الليل
مثل دينا التي فقدت أمّها وأختها
وهما تغادران البيت
ملوّحتين براية بيضاء.

رجلٌ من غزة ينتظر الليل
والتماع الضوء
في سماء طيّاري المجزرة
وهم ينتهكون الهواء بالدخان الوحشيّ
والرصاص القادم من البحر،
ومن مروحيات تشقّ السّماء
بشفرات نفّاذة.

صمت ليل غزّة
فاصل قصير،
برهة عالقة
في حصار سرمديّ
لحظة مرصوصة
بين تنافر ابتهالات المآذن
مع الأرواح الهائمة في الصّحراء،
واهتزاز الأرض
وتهشّم زجاج النوافذ
ليل غزّة
جرح أسرع من الصّوت
يُحدثه طيّار غير مرئي
في كبد السّماء.

نوافذ غزّة مفتوحة هذا المساء
تنتظر سقوط أكياس من المُخْمَلِ
وأحلام ذهبية
وطرق مفتوحة
لا نهاية لها
مثل نسمة
تعبر الحدود بلا تصريح
كرائحة النَّرْجيلة الحلوة
بطعم التفاح
في ليلة صيفية
في منتصف فبراير
في ليل غزّة.


■ ■ ■


غزّة بعد عام من الحرب

غزّة بعد سنة من الحرب
ماذا أقدّم لك يا صديقي،
ممّا لم يأخذوه في آخر شتاء؟
بقي بعض القهوة
وبعض الحطب،
والشاي بالنعناع
وقليل من المَيْرَمِيّة،
وفحم النَّرْجيلة
وبقايا من الفلافل والخبز
وزيت طبخ "أبو طلال"
وأسطوانة غاز شبه فارغة
ومفتاح قديم لبيت في يافا
وأقراص دواء أمّي
وتصريح للسفر
في نفس اليوم الذي ماتت فيه
وحفنة من الرمال
المختلطة مع الرماد
والمِلح الجافّ
على شِباكٍ مهجورة
في مراكب مُتعبة
وموجة تفجيرات في الأفق
وسماء حمراء تلعن
الطائرات التي اغتصبتها.


■ ■ ■


في قاعة رفح

(في قاعة الانتطار أثناء عودتي إلى غزة)

في الصّالة
في انتظار أسمائنا
مثل حجيج في نهاية العالم.

تدور جوازات السفر
تتناوب الأيدي
مشوّشة مثل المال
ورشاوى الدخول الصغيرة
إن لم يكن من الباب
فمن النافذة
أو من الأنفاق
مكتملاً أو على شكل قطع
تقلّبها أصابع ضابط
يخفي روحه الفاسدة
خلف دخان سيجارته المتعب.

تستقبلنا مقاعد رمادية
غير مريحة
شمس الصحراء المتواطئة
تغطي الخمول واليأس
بظلال الأرواح المفقودة.


■ ■ ■


موت

كلُّ موت جديد يذكّرنا
بأنّ الحياة لعبة قاتلة
تمنحنا كلّ شيء مغلفًا بالعدم
خليط من الرغبة والبؤس
وتوقّعات عالية
وقصور من ورق
أحجار دومينو وُضعت بعناية
من قبل عقل مصاب بالذُّهانِ
في انتظار السّقطة الصّغيرة
كمريض السرطان
فراغ يتنامى في الأحشاء
وتباطؤ في دّقات قلبٍ خارت أنفاسه
وحزن تجَلّط في الشرايين
ومصارف فقدت ذاكرتها المعتوهة في الغابة
وصورة عزيز لا تنضُبُ
تنتظر الضغطة الصغيرة
كي تنطفئ.

الموت هو اللطف لمن يختارهم
وبؤس للآخرين
يظلُّ يُطاردهم
إلى أن يحين دورهم.

عالقون بالحياة
كرغبة لاهثةٍ
معلقة بقبضةٍ هشّة
من صخور ناتئة وملتوية
لا تكترث لامتثالنا للجذبة الحتميّة
الحياة مشروع جاذبية
معدّ من أجل حيوانات أليفة
يقوّض الجميع
يسحقنا بإثارة
كلّما ازداد ارتفاع جنوننا
وكلّما كبرت المسرحية
والتنهيدات والدموع
والأشلاء المعدّة من أجل البعثرة
وهراء اليأس الماطر
والانغماس في الكحول
بحثًا عن الخلاص في النسيان
على أمل أن يكون خراب الدماغ
أثناء الاصطدام
رحيمًا
خَدِرًا
ونهائيًّا.


■ ■ ■


عمّان وقت الغروب

عمّان عند الغروب
عنيدة كمراهقةٍ تود ارتياد الملهى الليلي
غير آبهة بمعارضة والديها بالتبنّي
تدّعي النضج بكحلٍ يُزيّن رموشها
وأظافرها الزرقاء تطاول السّماء
حتّى حدود البحر شحيح المياه
ذي الرمال الذهبية
ترفع يديها وتتضرع
لتُرى وتُسمعُ
في محيط من فوضى الأصوات الأليفة
منها ما يصيب القلب
ومنها ما تراقصه تحت الأضواء اللامعة
في الأودية الجرداء.


■ ■ ■


الأسى

يأتي الأسى في القارب
يقترب رويدًا رويدًا
حتى يدركنا
يحاصرنا
يحاول إغراقنا
نغلق عينينا فنجده ما زال بقربنا
ثم يهرول طوعًا
تاركًا إيّانا بلا تبرير.


■ ■ ■


نوبة صمت

مؤلمٌ صمتي
لكنّه يشتدُّ ليلًا
أثناء انتظاري همساتك
محمولة على أجنحة رياح
منذرةً بحضورك.

مهشّم صمتي
تتخلّله نوبات طنين
وضربات فرشاة باهتة
من جِلدي.

صمتي ظلام أقمار وليدة
تروم مزيدًا من الصّمت
حتّى عيد الضياء القادم.


■ ■ ■


لاجئ

تبحث عن نكهة حميمة
في بلاد غريبة
أليفة الملمس
تبحث عن أزقة يمكنها احتواء مدينتك
وشعبك.

كوكبك محطم في أشلاء
تبحث في الجِرار الفخارية
وعلى عتبات نوافذ البيوت العتيقة
وفي ضيق الرؤية من خلال أسلاك الدجاج
وفي المشهد المُقفر خلف قضبان الحديد
في اعوجاج أجساد النساء العابرات
في أحضان الأرامل
حتّى الصّحراء بدت واعدة
عندما بدأ عطشك بالغثيان
والعقارب بدت عطوفة
أما الآن فلا نسمة واحدة في المقبرة
التي ظننت مخطئًا
أنها واحة.


Karl Schembri، شاعر وروائي وصحافي وناشط في مجال العمل الإنساني، مالطي المولد والنشأة (1978) يكاد يتفرد بين أبناء جيله في موقفه النقدي من أهل جزيرته كما يقول مواطنه الكاتب ماريو آتزوباردي.

تأتي في مقدمة أعماله مختارات شعرية نشرها تضامناً مع الشعب الفلسطيني خلال عدوان الاثنين وعشرين يوماً الصهيوني على غزة (2009) تحت عنوان "الدم نازل كما المطر" (الصورة) أو "الدم نيزل بش شتا" باللغة المالطية.

بالإضافة إلى مجموعاته الشعرية، نشر روايتين، هما "تحت القبعة شمس" (2002) و"البيان القاتل" (2006)، وتعرّضت الأخيرة لمنع بثها على شكل مسلسل إذاعي من محطة إذاعة جامعة مالطة، ولكن الفنان براين ماسكات عرضها على المسرح في العام 2008.

تخرّج شكمبري من قسم علم الاجتماع في جامعة مالطة، وعمل محرراً في صحيفة "مالطة اليوم" التي تصدر باللغة الانكليزية. إلى جانب نشره تحقيقات صحافية، كشف فيها عن تهريب الآثار العراقية عبر مالطة، والتفريط حتى بثروات متاحف بلده وسرقتها، وله تحقيقات لافتة للنظر عن مقاومة الفلسطينيين للاحتلال الصهيوني خلال إقامته في غزة وفي الأردن لاحقاً، وعمله مع عدد من المنظمات الإنسانية، مثل "أوكسفام" و"مجلس اللاجئين النرويجي".

** ترجمة عن المالطية: وليد نبهان

المساهمون