مئة وعشرة أعوام على "المنجد": مغامرة قاموس عربي

مئة وعشرة أعوام على "المنجد": مغامرة قاموس عربي

21 ابريل 2018
(من الاحتفالية)
+ الخط -
في عام 1908، كان الأب لويس معلوف قد انتهى من الاشتغال على معجم "المنجد في اللغة"، والذي صدرت طبعته الأولى في ذلك العام في بيروت، وأخرجته المطبعة الكاثوليكية.

وصف معلوف (1867-1946) في مقدمة النسخة الأولى "المنجد" بأنه "معجم لغويّ ليس بالمخل الـمُعوز ولا بالطويل الممل الـمُعجِز، قريب التناول، مُحكم الوضع، يأخذ بأوائل الكلمات بعد ردها إلى أصولها الثلاثية أو الرباعية"، ويبيّن "وقد سمّيناه المنجد وأملنا أن يجد فيه المتأدب والكاتب عوناً حسناً ونجدةً وافية في البحث والتنقيب".

ربما لم يكن معلوف يتوقّع أن هذا الجهد الذي وضعه في نسخة القاموس الأولى، سيعيش أكثر من قرن، ويبني عليه بعده آباءٌ ومعجميون ولغويون آخرون جهوداً تتجدّد مع كل إصدار جديد لـ "المنجد"، إلى أن أصبح هذا القاموس أحد أكثر المعاجم العربية شهرة وانتشاراً لطلاب العربية، والراغبين في تعلم الفرنسية والإنكليزية أيضاً بعد أن ظهرت قواميس عربي-فرنسي، وعربي-إنكليزي.

يوم الثلاثاء الماضي، احتفلت "جامعة القديس يوسف" في بيروت و"دار المشرق" بمرور 110 أعوام على إصدار "المنجد"، وأعلنت إصدار "المنجد المفصّل" وموقع "المنجد الإلكتروني" بحضور ومشاركة كل من الأب صلاح أبو جودة، وجينا أبو فاضل سعد، وهنري عويس، وجرجورة حردان، والأب بطرس عازار، وأمين فرشوخ.

في مداخلة افتتحت الاحتفالية، اعتبر سليم دكّاش، رئيس جامعة القدّيس يوسف، أن "المنجد" في صيغته "كما رآها وطوّرها معلوف كانت الأولى من نوعها في العالم العربي والإسلامي، من حيث العودة إلى الجذر الثلاثي أو الرباعي والإيجاز في الدلالة وإيراد التعابير في قديمها وجديدها كذلك من ناحية الطباعة حيث تمّ إدخال اللون الأحمر إلى جانب اللون الأسود، كلّ ذلك للدلالة على أنّ اللغة، وعلى وجه الخصوص اللغة العربيّة، هي لغة حيّة لا جامدة وبالتالي كان من واجب مؤلّفي وطابعي المنجد أن يكونوا مجدّدين في صياغتهم "المنجد" ليكون أداة في إخراج اللغة العربيّة من زمن الانحطاط وأن يكون خير مساعدٍ للطالب وللمثقّف وللكاتب العربي في قدرته على استخدام اللغة العربيّة وكذلك الإسهام في النهضة الأدبيّة العربيّة الكبرى التي يشارك بمجرياتها الكثير من اليسوعيّين المحلّيين والأجانب مثل لويس شيخو وأنطوان صالحاني وروفائيل نخلة وغيرهم من أئمّة الفكر والدين والأدب".جينا أبو فاضل سعد

ويعتبر دكاش أن معلوف "لم يكن مجرّد ناقلٍ لتاج العروس، أو لغيره من المعاجم مثل "لسان العرب" و"محيط المحيط"، بل إنّه عمل بدقّة اللغوي وحتى الألسني ومردّ ذلك إلى سعة علمه ومعارفه واكتساباته المتلاحقة. فبعد دروسه في الكليّة اليسوعيّة في بيروت، دخل الرهبنة ثم انتقل لاستكمال دراسته الفلسفيّة في انكلترا ودرس علوم اللاهوت في فرنسا وتمكّن من اكتساب اللغات القديمة والحديثة، شرقيّة وغربيّة، فكان العارف المحيط بأمور اللغات العربيّة والانكليزيّة والفرنسيّة والإيطاليّة إلى جانب اللاتينيّة واليونانيّة والعبريّة والسريانيّة".

كان معلوف، وفقاً لدكاش، "راغباً منذ البداية بأن يُلحق قسماً آخر بمنجده هو قسم الأعلام وقد سمّاه في وقت من الأوقات قسم العلوم والمعرفة. إلا أنّ ضيق الوقت لم يكن يسمح له بإعداد ذلك القسم، فقام الأب فرديناند توتل بتحضير أعلام العلوم والأدب والتاريخ، فصدرت طبعة سنة 1930 ملحقةً بقسمها الأخير الخاصّ بأعلام الأدب والعلوم وخصوصاً العربيّة منها، ولي شرف أنّي ساهمت في الثمانينيات من القرن الماضي بإعادة النظر بأعلام الإسلاميّات والكلام والفلسفة".

"المنجد الثنائيّ 2018: على دروب الترجمة"، كان عنوان ورقة عميدة كلّية اللغات في الجامعة، جينا أبو فاضل سعد، حيث عهِدت "دار المشرق" (ناشرة المعجم) إلى "مدرسة الترجمة في جامعة القديس يوسف"، مهمّة ترجمة المنجد المعاصر بصفحاته التي تناهز الثلاثة آلاف والمئة والست والأربعين إلى اللغتين الفرنسية والإنكليزية.

عن هذه التجربة تقول سعد: "لكي نثبّت الأسس التي ستقوم عليها عملية الترجمة بما تنطوي عليه من مقابلات ومعادلات، كان لا بدّ لنا بدايةً من تحديد المستهدف، أي مستخدم القاموس الثنائي. بالعودة إلى مقدمّة المنجد المعاصر الأحاديّ اللغة، تبيّن لنا أنّ هذا الأخير إنّما يتوجّه إلى مثقّف القرن الحادي والعشرين بما يضمّه من مفردات وعبارات قد يحتاجها هذا الأخير في حياته اليومية والمهنيّة التي باتت تشهد مفاهيم حديثة تواكب تطوّر العصر في الميادين كافة. أما المنجد الثنائي فلا بدّ من أن يخدم المترجم المحترف الذي يتوجّه إلى مثقّف القرن الحادي والعشرين. انطلاقاً من هذا المنظار، عكف فريق العمل على فرز ما يجب ترجمته أو نقله عمّا يجب إهماله وشطبه".

وتطرّقت سعد إلى الصعوبات التي واجهت فرق المترجمين للمنجد، ومن أبرزها تعدّدية المعنى والصور البلاغية والأمثال. توضّح: "لا يغفل على أحد أنّ المفردة الواحدة قد تكتسي معانيَ متعدّدة ومختلفة باختلاف السياقات التي تندرج ضمنها. ويطمح المنجد إلى أن يقدّم أوسع مروحة من السياقات لكل مفردة من مفرداته، مع أنّه على يقين من أنّه، كأي قاموس آخر، وهو من أفضلها، لا يسعه أن يحصي استعمالات البشر اللغويةَ كلَّها. فمفردة "جسم" مثلاً قد تترجم بـ corps, organisme, matière, substance, châssis, حسب السياق اللفظي الذي يحيط بها".

وتضيف سعد: "أمّا الصور البلاغية فحكايةٌ أخرى ونحصي منها أنواعاً متعدّدة: فمنها ما أصبح شائعاً ومتداولاً فدخل اللغة وغدا ما يعرف بالتعبير الجامد. لعلّ هذا النوع هو الأسهل ترجمةً حيث يكفينا جهداً أن نوقظه من غياهب الذاكرة أو أن نعثر على ما يعادله في القواميس الثنائية اللغة الأخرى. فإذا ما وقعنا مثلاً على الصورة التالية: "فجعلناه هباءً منثوراً" لخطرت على بالنا فوراً الترجمة التي تعتمد صدفةً الصورة نفسها تقريباً في اللغة الفرنسية: Nous l’avons réduit en» poussière». لكنّ الصور كلّها لا ترتحل من ثقافةٍ إلى أخرى وتبقى على حالها، فمنها ما يتبدّل ويتحوّل حيث يتمّ التعبير عن الحالة نفسها بواسطة صورة مختلفة وهذا ما ينبغي التنبّه إليه".

ترى سعد أن دروب الترجمة "تتشعّب وتبدو أحياناً وعرة ومتعرّجة فيصاب المترجم ببعض يأس أو إحباطٍ عابرين. ولكن كم تكون فرحته عظيمة عندما يهتدي إلى ضالته ويعثر على ترجمة ترضيه. وهو على يقين، متى أكبّ على ترجمة قاموس من القواميس، أنّه إنما يخدم مستعمليه إلى حدّ بعيد لكنه لن يستطيع أبداً أن يلبّيَ حاجاتهم كلَّها لما للكلام من سياقات لا تنتهي ولما للناطقين باللغة والكاتبين بها من أساليب ابتكار لا تحصى ولا تعدّ. فحسبُ المترجم، ذاك العامل في الظلّ، الدؤوب الذي لا يكلُّ ولا يمَلُّ، الشغوف بعمله، الذي يبقى أبداً غير راضٍ عن نتاجه فيعيدُ التفكّر فيه ألف مرّة ومرّة، حسبُه أن يكون قد أحاط بما وَسِعه أن يحيطَ به. فعسى نقطةُ النهاية التي وضعها ختاماً لعمله، أن تكون نقطةَ انطلاق وبداية لعمل الآخرين من مستخدمي المنجد وما أكثرَهم!".

في ورقة هنري عويس المعنونة بـ "ماذا تأخذون: الجعة أو ماء الشعير أو البيرة؟" يذكر مدير "مرصد اللّغات العربيّة وأخواتها" في جامعة القدّيس يوسف، "ما شأننا وشأن "البيرة" و"النقيع" و"العصير"، ولماذا "نأخذ" وليس "نشرب" أو "نختار"؟ والأجوبة متعدّدة: أوّلاً، إنّ المنجد المفصّل بنسختيه ذكر تلك المفردات، أي أنّه أورد الإمكانيّات وطرحها مشاعاً أمام المترجم. ثانياً، أنّ المنجد أبقى الاختيار في عهدة المترجم، لأنّ القواميس، بما فيها "المنجد المفصّل" لا تترجم. كذلك فإنّ المترجم ليس "منجداً مفصّلاً" جوّالاً. وعليه فللمترجم أن ينتخب "الجعة" أو أن يمنح صوته التفضيلي للـ"نقيع" أو "العصير" أو "البيرة"، وله كذلك أن يصوّت لـ "أخذ" أو "شرب"... ثالثاً، إنّ المترجم لربّما يستسلم لأوّل مقابل يقترحه المنجد، ويأتي به ملغياً بذلك حقّه في الاختيار مبتعداً عن أيّ تسويغ، مكتفياً بأنّ "المنجد المفصّل"، أو غيره، أورده. ولعلّ الاستسلام يدفع المترجم إلى نسخ التركيب الوارد في الجملة المصدر فيكتب بأحرف عربيّة ما جاءت به التراكيب الفرنسيّة أو الإنكليزيّة. ففيما نقرأ بالحرف العربي يشتعل رأسنا بقوالب الإنكليزيّة أو الفرنسيّة... رابعاً، عندما يستقيل المترجم من مهنته يعيد تلزيم ما كان عليه القيام به هو، فيكلّف تارة "المنجد"، وتارة القالب المصدر كأن فعل الترجمة بحدّ ذاته "شرّ" على المترجم أن "يتجنّبه".

تبدو القواميس، بحسب عويس "كأنّها مصدر اطمئنان، وثقة، وضمانة وهي كذلك، شرط ألاّ يقع الطالب والمترجم في فخّ الإدمان عليها، وعدم القدرة على العيش من غيرها. والقواميس مادّة ثمينة وغنيّة يستحسن الإقبال عليها واستهلاكها بجرعات محدّدة كي يبقى مفعولها قويّاً، وعلاجها صائباً. ولكم كتبت وما زلت في هوامش بعض الفروض والتمارين "عاش القاموس"، أو أين صارت العربيّة في جمهوريّة الفرنسيّة؟ مؤكّداً على أنّ السياق يشتغل و"المنجد" ويتبادلان المساعدة، ولعلّ أهمّ مفهوم طرحه "المنجد المفصّل"، وعلى صفحة الغلاف هو "الاستعمال في السياق". فالترجمة لا تتمّ في الفراغ، وفي المقابلات، إنّما هي ترتبط بالسياق وهي ليست كذلك عمليّة عرض عضلات قاموسيّة أو لغويّة فاذهب على سبيل المثال إلى "اليمّ" أو "اللّجة" للسباحة أو اذهب إلى "البحر".

بدوره يرى الأكاديمي جرجورة حردان مدير "المعهد العالي لإعداد الدكتوراه في علوم الإنسان والمجتمع" في جامعة القدّيس يوسف، إن "ما بعد المنجد" (عنوان مداخلته)، هو المنجد؛ "لأن مغامرة هذا المعجم حوَت منذ انطلاقتها وخلال مراحلها كافة، وصولاً إلى يومنا هذا العناصر الأساسيّة، العلميّة منها، والمنهجيّة والإنسانيّة التي لا بد منها لوضع معجم يخضع لمعايير المعجميّة الحديثة من جهة ويحمل طابع اللغة المنويّ العمل عليها من الناحيتين الثقافيّة والحضاريّة".

ويُجمل حردان العناصر في "حب العربيّة والشغف بها وبتاريخها وإنتاج أعلامها، والعمل ضمن الفرق، بعيداً عن الفرديّة والنجوميّة، والاستمراريّة، فيكمل الخلف ما بدأه السلف، إذ اللغة لا يتوقف تطوّرها، يتأثّر معجمها بالجديد الآتي من إبداعات الداخل وإدخالات الخارج، والتعدّد اللغوي الذي وفّر للباحثين والعاملين انفتاحاً على الفرنسيّة أولاً ثم على الإنكليزية، والهدف المختار للمعاجم التي تعد هو خدمة المتعلمين من تلاميذ وطلاب ومساعدتهم على إتقان العربيّة".

يلفت حردان إلى ضرورة وجود "رصد يواكب استعمال الفصحى ويستخرج منه، عن طريق الدراسات الإحصائية، الكلمات الأكثر استعمالاً وتواتراً. وقد أنتجت مجمل اللغات الغربيّة على مدار القرن الماضي دراسات ألسنيّة إحصائية زوّدتها بلوائح ما سمّي بالمعجم الأساسي. وما لم يتم ذلك في لغة الضاد، فسيبقى المضمون في معاجمها صورة طبق الأصل عن محتوى المعاجم السابقة، مع بعض الإدخالات من لوائح اللغات الأخرى، بعيداً عن نبض اللغة الفعلي، ومفتقراً إلى الأمثلة الغنيّة التي تغطي الميادين كافة والتي وحدها تلبي حاجات مستعملي المعاجم من متعلمين وباحثين وطالبي معرفة وحسب".

ودعا أخيراً إلى تعديل في المنجد يتضمّن إضافة معلومات تاريخيّة عن نشوء الكلمات وتطوّرها عبر العصور وعن مصادر الأعجميّة الدخيلة، والتي تُستقى من دراسات رصينة شاملة تطبّق فيها معايير الدراسات الألسنيّة التاريخيّة، وهو لم يتوافر بعد إلى يومنا هذا".

معجم رقمي

أطلقت دار "المشرق" نسخة إلكترونية من معجم "المنجد"، وأعلنت مندوبة الدار في الحفل، مايا شرفان، أن النسخة هي موقع تجريبي قابل للتعديل والتطوير والتغيير، داعية المستخدمين، من طلاب وباحثين وإعلاميين، إلى إرسال ملاحظاتهم حول الموقع وطريقة استعماله والمشكلات التي تواجههم فيه إلى الدار، التي ستستقبل كافة الملاحظات حتى شهر من تاريخ إطلاق الموقع الثلاثاء الماضي.

المساهمون