الجزائر... موسيقى وقتلى وإقالات

الجزائر... موسيقى وقتلى وإقالات

29 اغسطس 2019
(ملصقات الحفل الذي انتهى بسقوط قتلى، تصوير: رياض كرامدي)
+ الخط -

قبل يومَين من استقالته في الثاني مِن إبريل/نيسان الماضي على وقْع مظاهراتٍ حاشدة دعت إلى رحيله، عيّن الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة "حكومة تصريف أعمال" ضمّت مجموعةً من الوجوه الجديدة؛ من بينها ناشرةٌ شابّةٌ أُسندت إليها حقيبة الثقافة، خلفاً لعز الدين ميهوبي الذي تولّى المنصب في 2015.

قُوبلت الحكومة بـ رفضٍ شعبي واسع وطُرد عددٌ من وزرائها في غير ما مدينة؛ حيثُ اعتُبرت مِن بقايا نظام بوتفليقة، وخصوصاً أنّ من ترأّسها لم يكُن سوى وزير داخليته السابق نور الدين بدوي، الذي يتّهمه الشارع بتزوير عددٍ من الدورات الانتخابية، ويُحمّله، أيضاً، مسؤولية تزوير استمارات ترشُّح "الرئيس المريض" لولاية رئاسية خامسة.

غير أنَّ الرفض الذي واجهته وزيرة الثقافة، مريم مرداسي، بدا وكأنه أكبرُ ممّا واجهه باقي زملائها في الحكومة، إذ ظلّت الانتقادات تُلاحقها عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، كما استُقبلت بهتافاتٍ مناوئة في أكثر من مناسبةٍ ثقافية وفنية؛ آخرها مهرجانا تيمقاد في باتنة وجْميلة في سطيف، واللذان نُظّما خلال أغسطس/آب الجاري.

لا يُفسَّر ذلك بكونها كانت الأكثر ظهوراً إعلامياً بين الوزراء الحاليّين فحسب، بل يُمكن ربطه، خصوصاً، بتصريحاتها التي اعتبرها الشارع استفزازيةً؛ خصوصاً تلك المتعلّقة بشرعية الحكومة، وهي تصريحات كشفت من جهةٍ أُخرى عن مستوىً هزيل، شكلاً ومضموناً، كثيراً ما أثار التندُّر والسخرية على الشبكات الاجتماعية.

قبل وصولها إلى "قصر هضبة العناصر" (مقرّ وزارة الثقافة)، لم يُعرَف عن مريم مرداسي (الصورة) سوى أنّها صاحبة دار نشرٍ مغمورة في مدينة قسنطينة شرقي الجزائر. لعلّ هذا "المسار" المتواضع يكشف عن الاستسهال في توزيع الحقائب الوزارية في الجزائر، وهو ما ذكّر كثيرين بشخصٍ عُيّن وزيراً للسياحة قبل سنتَين، ثمّ أُقيل بعد ساعات قليلة من ذلك، وقد لُقّب بـ"الوزير البطّال"؛ لكونه لم يمارس أيَّ عملٍ قبل ذلك.

كسابقيها، أجرت الوزيرة تغييرات في قطاع الثقافة؛ أبرزُها إقالة عددٍ من مديري المهرجانات الثقافية الدولية في يونيو/حزيران الماضي وتعيين بدلاء لهم، إضافةً إلى مدير "المعرض الدولي للكتاب" حميدو مسعودي. أمّا آخر التغييرات فمسّت الوزيرةَ نفسها؛ إذ قدّمت الأخيرة استقالتها قبل أيام، وأُسند المنصب بالنيابة إلى وزير الاتصال الحالي حسان رابحي. وهكذا، تكون مرداسي، وبالإضافة إلى كونها أصغر وزراء الحكومة، أقصرَهم عمراً فيها، بعد وزير العدل السابق سليمان ابراهيمي الذي أُقيل قبل أيّام.

أمّا خلفيات الاستقالة، فترتبط بحفل فنّي قدّمه المغنّي الجزائري المغترب عبد الرؤوف درّاجي (1989) المعروف فنّياً باسم "سولكينغ"، في ملعبٍ بالجزائر العاصمة يوم الخميس الماضي، وانتهى بسقوط خمسة قتلى وعددٍ آخر من الجرحى.

كان ذلك أوّلَ حفلٍ يقدّمه المغنّي الشاب في بلده الذي غادره إلى فرنسا في 2014 "حرّاقاً" (مهاجراً غير قانوني)؛ ففي غضون سنواتٍ قليلة، استطاع تحقيق جماهيرية جارفة في أوساط الشباب والمراهقين، بدأت مع صدور ألبومه "جينغل صوندا" في 2016. وهكذا، عاد إلى الجزائر نجماً بعد أنْ كان مجرّد مغنّي راب مغمور فيها.

وبعيداً عن الجدل الذي أثاره الحفل بين مرحّبٍ ورافضٍ (برّر كثيرٌ من الأصوات الرافضة موقفها بالوضع السياسي والاقتصادي في البلاد)، كان لافتاً اختيارُ "ملعب 5 أوت 1955" في الجزائر العاصمة لاحتضانه؛ إذ لا يتّسع المكان لأكثر من عشرة آلاف مقعد، بينما يتّسع "ملعب 5 جويلية 1962" لقرابة ثمانين ألف مقعد، مع العلم أنَّ عدد التذاكر التي بيعت تجاوز خمسين ألف تذكرة.

أَسندت وزارة الثقافة تنظيم الحفل إلى "الديوان الوطني لحقوق المؤلّف والحقوق المجاورة"، وهي هيئةٌ تابعة لها لا يدخل تنظيم الحفلات الفنية ضمن مهامها. وبدوره، أسند الديوانُ الحفلَ إلى شركة إعلاناتٍ مغمورة لا يُعرف عنها إشرافها على تنظيم نشاطات ثقافية كبيرة. نتيجةُ كلّ ذلك كانت سوء تنظيم أدّى إلى سقوط قتلى وجرحى عند مدخل الملعب بسبب التدافع.

بعد ساعات قليلة، أقال الرئيس الجزائري المؤقّت، عبد القادر بن صالح، المديرَ العام للأمن الوطني عبد القادر بوهدبة، وأنهى الوزيرُ الأوّل نور الدين بدوي مهام المدير العام لـ"الديوان الوطني لحقوق المؤلّف والحقوق المجاورة"، سامي بن شيخ الحسين، الذي عمّر في منصبه طويلاً، كما أُعلن عن "فتح تحقيق قضائي لكشف ملابسات الحادث وتحديد المسؤوليات بشأنه"، وأعقب ذلك إعلان قبول استقالة وزيرة الثقافة.

هذه الإجراءات اعتبرها كثيرون إحدى ثمار الحراك الشعبي الذي دخل شهره السابع، بما أن الإفلات من العقاب وتحمّل المسؤوليات الأخلاقية والقانونية لطالما كان أمراً شائعاً.

ورغم ترجيح متابعين أنْ تكون الوزيرة قد استقالت بعد أنْ طلبت "جهات عليا" ذلك منها، حتّى لا تُثير إقالتها انتقاداتٍ جديدة للرئيس المؤقّت الذي لا يُخوّله الدستور الجزائري صلاحية إقالة الوزراء، فقد اعتبر بعضُهم الاستقالة سلوكاً إيجابياً في بلدٍ يعض فيه المسؤولون على مناصبهم بالنواجذ (طيلة عشرين سنة من حُكم بوتفليقة لم يستقل سوى وزير واحد).

لم تخلُ الأشهر الخمسة الماضية ممّا سمته وسائل إعلام محلية بالتجاوزات؛ أبرزها قبول وزارة الثقافة تمويل فيلمٍ وثائقي لوالد الوزيرة، المؤرّخ عبد المجيد مرداسي، وهو ما اعتبره نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي استمراراً لممارسات "العصابة"؛ وهو التعبير الذي بات يُطلَق على رجالات بوتفليقة الذين يقبع عددٌ غير قليل منهم في السجون.

وقبل أيام قليلة، تداول روّاد مواقع التواصل الاجتماعي صوراً للوزيرة الشابة وهي تتسوّق في مركزٍ تجاري أميركي بعد توقيعها مذكّرة تفاهم مع مساعدة وزير الخارجية الأميركية للشؤون التعليمية والثقافية، ماري رويس، تهدف إلى "الحدّ من نهب الممتلكات الثقافية الجزائرية"؛ حيث استهجن معلّقون استغلالها فرصة وجودها في الولايات المتّحدة لزيارة مركزٍ تجاري بدل الذهاب إلى مكتبة أو متحف، واعتبر آخرون ما قامت به استغلالاً للأملاك العامّة لقضاء أغراض شخصية، خصوصاً أنَّ الصور أظهرت، أيضاً، سيّارةً للسفارة الجزائرية في واشنطن.

المساهمون