فلسطين وجنوب أفريقيا.. ذاكرة الفصل العنصري

فلسطين وجنوب أفريقيا.. ذاكرة الفصل العنصري

18 ابريل 2017
(ريتشيل هولمز، أثناء مشاركتها في "احتفالية فلسطين للأدب"، 2009)
+ الخط -

"لم ألتق يومًا بشخصٍ لطيف من جنوب أفريقيا". هذا مقطع من استعراض غنائي شهير عرض في ثمانينيات القرن العشرين في برنامج (Spitting Image)، وهو عرض دمى تليفزيوني بريطاني ساخر. كانت أغنية سياسية مرحة ذات شعبية طاغية. ومثل زملائي الآخرين من أطفال المدرسة الإنكليزية، تعرّضت لهذه الرسالة الدعائية. ولكنني كنت مختلفةً عنهم، فقد كانت أمي من جنوب أفريقيا، وكنت قد نشأت هناك في السبعينيات وكنت أقضي نصف العام معها ومع عائلتي الممتدة. هكذا رأى معظم زملائي وأساتذتي البريطانيين أني عنصرية وفاشية، أما أنا فلم أكن أفهم السبب وراء ذلك.

كان دخول التلفزيون البريطاني إلى جنوب أفريقيا أمرًا مشهودًا، حيث منعت حكومة الفصل العنصري قيام أي محطة تلفزيونية حكومية حتى عام 1976. وبفضل الدعاية الحكومية كان الجميع يعتقد أن هذه التكنولوجيا الحديثة "من عمل الشيطان لنشر الشيوعية والانحلال".

وفي مكان ما على خط الاستواء الذي قسم حياتي بين والديّ إلى عبور دائم شمالًا وجنوبًا، اشتعل لهيب الشك وتأججت نيران المعارضة. كانت الأسباب كثيرة من الصعب حصرها، ولكن أبرزها عودة كثير من أبناء عمومتي الذكور الذين نشأت معهم، -والذين كانوا يُجنّدون قسرًا في قوات الدفاع الجنوب أفريقية- بقصص متفرقة يحكونها همسًا عن غزوات حربية كان يجب ألا نحاربها وراء حدود كان يجب ألا نتخطاها.

في سنوات العزلة المتزايدة هذه في السبعينيات والثمانينيات، كانت "إسرائيل" صديقتنا الدولية الوحيدة التي نثق بها؛ فعندما كنت في سن الحادية عشرة، ذكّرنا الدليل السنوي لحكومة الفصل العنصري أن "هناك في المقام الأول قاسمًا مشتركًا بين إسرائيل وجنوب أفريقيا: كلتاهما محاصرتان من شعوب عدوانية ذات بشرة داكنة".

كانت هذه بعض الذكريات التي طفت عشوائيًا على سطح ذاكرتي بينما كنا موقوفين على "جسر الملك حسين" (جسر اللنبي) الحدودي في الطريق إلى مشاركتي الأولى في "احتفالية فلسطين للأدب". احتجزنا جيش الاحتلال الإسرائيلي، ببطء يتلذذ به جنوده، أكثر من ست ساعات، وقسمونا وفقًا لأسمائنا وما يتصوّرون أنها أعراقنا، بصرف النظر عن جواز السفر أو الجنسية التي يحملها أي منّا.

تتبّعنا الجغرافيا المجنونة لجدار الفصل العنصري، ومررنا بنقاط تفتيش أشبه بحظائر الماشية، وأخرجتنا وحدة عسكرية تابعة لجيش الاحتلال عنوةً من المسارح، وتمسكنا بإحكام بحبّات بصل للتخفيف من حدة الغاز المسيل للدموع الذي اعتبروه مساويًا لإرهاب التهديد الخطير الذي تشكّله مجموعة من فناني الراب الشباب يغنّون في خيمة.

في عام 1937، أرسلت الكاتبة نانسي كونراد استبيانًا إلى مئتي كاتب لإبداء آرائهم حول الحرب الأهلية الإسبانية. كان الهدف من ذلك هو دعوة الكتّاب لاتخاذ موقف واضح في الصراع بين الديمقراطية والفاشية، ورد فيه: "من الواضح للكثير منا عبر العالم الآن، أننا عازمون أو مضطرون للانحياز لأحد جانبي الصراع، وأنه لم يعد من المجدي اتخاذ المواقف المبهمة أو الانعزال في برج عاجي أو الحياد الساخر الذي يعد تناقضًا صارخًا. كانت الأغلبية العظمى من الردود تدعم الجمهورية الإسبانية، كاشفة عن العداء السافر للفاشية. ولكن بعضهم، مثل الشاعر ت. س. إليوت، اعترضوا على إجبارهم على "الانحياز لطرف ما".

وفي أبريل 2016، ألقى ناثان لينيال، أستاذ علم الحاسوب والهندسة بالجامعة العبرية في القدس وابن مهاجرة هاربة من ألمانيا النازية وناجية من الهولوكوست، خطبة بمناسبة فوزه بجائزة روتشيلد، يقول فيها: "اعذروني، سأعكر صفوكم قليلا، في كل نص تاريخي يقرأه المرء عن الفاشية يجد فكرة واحدة تطالعه مرارًا وتكرارًا، وهي أن الفاشية لم تنجح سوى في الأماكن التي لم يشمر سكانها المحترمون عن سواعدهم لمقاومتها، سواء بداعٍ من الكسل أو الضعف أو الجبن. وكما يخبرنا دانتي: هناك مكان مخصص في الجحيم لأولئك الذين يلتزمون الحياد أمام المعضلات الأخلاقية. واجب كل إنسان محترم أن يقف بفخر ليصدح بصوت جلي بهتاف المقاتلين ضد الفاشية أثناء الحرب الأهلية الإسبانية: لن يمروا"!

تعامل الحكومة الإسرائيلية النشطاء المناهضين للاحتلال كمنشقين. ووافق "الكنيست" في عام 2016 على ما يدعى بقانون شفافية المنظمات غير الهادفة للربح، وهو تشريع يستهدف المنظمات غير الربحية "اليسارية" ومنظمات حقوق الإنسان بوصفها عميلة لقوى أجنبية.

كذلك عملت وزيرة الثقافة ميري ريجيف جاهدة لقمع "الانشقاق السياسي" في دوائر الآداب والثقافة والرياضة؛ حيث تلقى فنانون إسرائيليون استبيانات تسألهم هل يمارسون أعمالهم في مستوطنات الضفة الغربية أم لا. وشرحت ريجيف هذا الإجراء بأن "المؤسسات التي تنزع الشرعية عن دولة إسرائيل لن تتلقى أي تمويل". ويعد هذا الاستبيان تجهيزًا لما تدعوه الوزيرة "قانون الولاء الثقافي"، وهو كما صرحت يهدف لدعم المؤسسات الثقافية وفقًا لـ"ولائها لدولة إسرائيل".

كانت دائرة السايبر بالنيابة العامة الإسرائيلية قد أرسلت في الشهور الأخيرة طلبات إلى تويتر ومنصات إعلامية أخرى بإزالة محتوى معين أو حجبه عن "كافة سكان إسرائيل". ففي آب/أغسطس 2016 على سبيل المثال، أخطر القسم القانوني بتويتر المدون ريتشارد سيلفرستاين أن "النائب العام الإسرائيلي" يدّعي أن إحدى تغريداته المنشورة في أيار/مايو السابق "تنتهك القانون الإسرائيلي" (ينشر سيلفرستاين القصص الصحافية التي لا يستطيع الصحافيون الإسرائيليون نشرها بسبب سياسة تكميم الأفواه). وبعد يومين أعلنت الشركة، أنه "وفقًا للقوانين المعمول بها ووفقًا لسياساتنا، قرر تويتر حجب التغريدة (التغريدات) التالية في إسرائيل".

وفي الوقت الحالي، يشار إلى حركة مقاطعة إسرائيل الـ(BDS) بشكل شبه يومي في الإعلام الإسرائيلي بوصفها "الشكل الجديد لمعاداة السامية. ولكن أكثر فيلم كرتوني ينشر معاداة السامية في الآونة الأخيرة تنتجه إسرائيل نفسها! يعرض الفيلم شخصًا ألمانيا يدعى "السيد المهاجم" يعمل في الخفاء عبر جريدة تحاكي بشكل ساخر جريدة هآرتس. وبين الحين والآخر تصرخ مدبرة المنزل أن "اليهودي" قد وصل، ثم يظهر شخص يشبه الصورة النمطية البغيضة عن اليهود، بأنفه المعقوف وولعه بالعملات الذهبية اللامعة التي يمنحها له السيّد المهاجم نظير كتابة قصص تنتقد السياسة الإسرائيلية مثل: قاطعوا إسرائيل! مقتل أطفال فلسطينيين أبرياء في سن العشرين! ملايين الفلسطينيين عالقون في نقاط التفتيش على حدود إسرائيل! وفي النهاية، عندما تنتهي حاجة السيد المهاجم إلى اليهودي، يشنق الأخير نفسه طائعًا. لم تنتج هذا الفيلم جماعة يمينية متطرفة في أوروبا، بل أنتجه "مجلس مواطني السامرة" وروّج له، مع إنه هيئة تمثل المستوطنات الإسرائيلية في شمال الضفة الغربية.

لم يكن غريبًا أن الفتاة التي لم تستطع فيما مضى الاتصال بأحد أبويها إلا عن طريق الخطابات صارت كاتبة عندما كبرت؛ لم يكن غريبًا أيضًا أن البيض في جنوب أفريقيا تعلموا الإنصات لأصوات المنشقين. قد يرى الغرباء أولئك البيض باعتبارهم طغاة، وقد يرى بعض بني جنسهم أنهم خونة يبغضون أنفسهم، لكن إن لم نستمع لأصوات أولئك المنشقين فلن يتحسن أي بلد على وجه الأرض وستختنق الديمقراطية وتستمر الحروب إلى ما لا نهاية.

"احتفالية فلسطين للأدب" مكنتني من سماع هذه الأصوات.

* ترجمة أحمد حسام ومراجعة ندى حجازي
__________

ابنة ماركس وقضية عادلة
راشيل هولمز Rachel Holmes كاتبة قصصية جنوب أفريقية بريطانية، ومؤرخة ثقافية متخصصة في القرن التاسع عشر، من أبرز كتبها في هذا المجال: "إليانور ماركس - سيرة حياة" (الصورة) الذي تؤرخ فيه لحياة شخصية نسوية هي ابنة كارل ماركس. قامت هولمز بمشاريع ثقافية وكتابية تعكس التزامها بعدالة القضية الفلسطينية. وهي من ضيوف "احتفالية فلسطين للأدب" هذا العام والتي تنطلق في 14 أيار/ مايو المقبل. 


المساهمون