حين نسمع صوت أفريقيا

حين نسمع صوت أفريقيا

16 مايو 2015
من بروندي (تصوير: برونو دو أوج)
+ الخط -

البحث في ماضي وحاضر الموسيقى الأفريقية، والرحلة ما بينهما، يكشف أن معظم الأنواع الموسيقية المعاصرة نهَلت من تأثيرات تلك الموسيقى، بل أحياناً تأسست وتطورت وفقاً لبُناها الإيقاعية وسلالمها.

يتكون عالمنا من خمس قارات، لكل منها إسهامها في تاريخ وتطور ما بات يُعرف الآن بالموسيقى المعاصرة دون تخصيص يعتمد على التصنيفات المحلية أو الجهوية أو القارية. لكن تاريخ القارة الأفريقية وأوضاعها الاجتماعية والسياسية جعلت لموسيقاها مكانة تاريخية خاصة في علاقتها بموسيقى القارات الأخرى.

لدينا مجموعة من العوامل الرئيسية نستند إليها منها؛ التاريخ الاستعماري الطويل للقارة الأفريقية وتَسيُّد نمط الاستعباد والاستبداد طويل الأمد، الذي كان من شأنه منح الموسيقى الأفريقية (عبر الحركة الجغرافية الواسعة للمستعبدين) انتشاراً يفوق غيرها من الموسيقات الأخرى، أوصلها لأميركا الشمالية والجنوبية وإنجلترا، نلاحظ تأثيرات واسعة على الموسيقى الأيرلندية. وعبر هذا الحراك والاستفادة من هذا المعطى الموسيقي الجديد؛ نشأت الأنواع التي أسست للموسيقى المعاصرة كالجاز والبلوز والريجاتون والهيب هوب والراب وبعض فئات الروك.

بحكم امتداد زمن التأخر الاجتماعي والسياسي - ما قبل وبعد الحقبة الاستعمارية - احتفظت أفريقيا بمكانة خاصة لموسيقاها - التي نشأت كوسيلة تعبير طقوسية جماعية، مثلما هو الحال في مناسبات الفرح والعمل والصيد والميلاد والموت - فلم تتم مصادرتها لصالح مؤسسات الإنتاج الفني والثقافي، أو لصالح المبدعين الأفراد الذين أعادوا صياغة كل أشكال الموسيقى الشعبية والجماعية وفقاً لمعايير "التطوير" الموسيقي، وتكييف الإنتاج لاستهلاك السوق الجماهيرية الواسعة.

احتفظ الضعف المؤسسي للموسيقى الأفريقية بحرية واستمرار وجودها بين جماعتها الحاضنة؛ من موسيقيين شعبيين ومبدعين تلقائيين ومتلقين فاعلين ومشاركين، تعيش الموسيقى بينهم وتنبع منهم، ولا يكتفون فقط بإنتاجها كمحترفين وتلقّيها كمستهلكين. وهذا العامل هو بالتحديد ما أعطى الموسيقى الأفريقية صفة الأصالة وجعلها بصمة لا تُنسى ولا يمكن استبدالها.

قدَّمت الموسيقى الأفريقية للعالم هدية "التعدد الإيقاعي" (Polyrhythm) تماماً كما قدَّمت الموسيقى الأوروبية للعالم "تعدد الخطوط اللحنية" (Polyphony).

فقط عبر هذه المساهمة الأصيلة حفرَت الموسيقى الأفريقية مكانها في تاريخ وحاضر ومستقبل الموسيقى، اكتشاف وابتداع القدرة على إنتاج الإيقاع المركب من عدة إيقاعات متوازية، وهذا الكم الهائل من الإيقاعات المتداخلة وآلات الإيقاع المتنوعة.

حين نتحدث هنا عن الموسيقى الأفريقية، لا بد أن نعرف أن تلك المنطقة من القارة حفل تاريخها بتأثيرات قوية من اتجاه مغاير مثل العربي، والذي يعتمد بالأساس على النغمية الميلودية، جوهر ما بات يعرف الآن بالموسيقى العربية/التركية/الفارسية/الأندلسية/الكردية، إلى أن نصل إلى تأثيرات السلالم الهندية على منطقة الخليج العربي وبدو سيناء والمدن الساحلية المصرية. من ناحية أخرى أيضاً هناك تفاعلات تلك المقامات العربية مع موسيقى البربر والغجر والطوارق، حتى الأنواع الأحدث مثل الراي والكناوي في المغرب العربي.

ولذلك سنجد أن تفاعل موسيقى المنطقة العربية مع موسيقى امتداداتها الأفريقية من السودان وأثيوبيا وحتى جنوب الصحراء الأفريقية، كان محاولة لتطويع التعدد الإيقاعي، والنغمية المحببة للمستمع العربي في صيغة غنائية واحدة؛ بدءاً من اهتمام واضح ظهر منذ خمسينيات القرن الماضي لدى موسيقيين مصريين مثل محمد فوزي، ومنير مراد، وعبد العزيز محمود، مروراً بمحاولات أحدث؛ ظهرت في موسيقى حميد الشاعري، ويحيى خليل، وفتحي سلامة، ومحمد منير، في بداياتهم، وهي في الأساس كانت الوجه الإنتاجي الاحترافي لدأب كبير عمل عليه أحمد منيب، وبحر أبو جريشة، وعبده الإسكندراني، وحمزة علاء الدين، وغيرهم من موسيقيين حملوا الوجه الشعبي لما اصطلح على تسميته "موسيقى الجنوب" في مصر، واستمروا في تقديمه خلال مرحلة السبعينيات والثمانينيات.

هذه التجارب بالطبع لا تتساوى في طبيعتها ولا نجاحاتها ولا احترامها للمكوّن الإيقاعي الجوهري للموسيقى الأفريقية، وتختلف اقتراباً وابتعاداً عن التنميط والتبسيط لعالم التعدد الإيقاعي الذي تحدثنا عنه لصالح صيغة بوب مبسطة.

ولذلك، جاءت الصيغة الموازية من المغرب العربي، تحديداً القفزة العالمية لموسيقى الراي أكثر استجابة لمعنى التلاقح والتطوير الموسيقي كما يعرفه عالم الموسيقى المعاصرة.

إذ احتفت الأجيال المختلفة من موسيقيي الراي بالتعدد الإيقاعي والنغمي الأفريقي، وبالخصوصية المقامية (العربية)، وأنتجوا صيغة اجتذبت جمهوراً واسعاً في العالم ولا تقتصر على إعجاب مستمعها المحلّي. نتحدث هنا عن أسماء مثل الهادي جويني وحبيبة مسيكة والهاشمي قروابي وعبد الوهاب الدوكالي؛ وصولاً إلى رشيد طه والشاب خالد والشاب مامي وسعاد ماسي.. والقائمة ليست قصيرة.

يبقى الجدل مستمراً بين اتجاهات تميل للاحتفاظ بالموسيقى الأفريقية معيناً للتجديد والتفاعل مع الموسيقى العربية؛ عبر منتج يعتز بخصوصيته المحلية - وهو اتجاه يميل أكاديميو الـmusicology لحصاره فيما يُسمّى الموسيقى الإثنية أو موسيقى العالم- واتجاهات أخرى تميل إلى "تذويبه" في ثراث الموسيقى الغربية الحديثة، هروباً من حصار أو سعياً لانتشار.

المساهمون