عزمي بشارة: أن نطرح سؤال "ما الشعبوية؟"

عزمي بشارة: أن نطرح سؤال "ما الشعبوية؟"

12 ديسمبر 2019
(من معرض بعنوان "الشعوبية السياسية"، برلين، 2015)
+ الخط -

"في الإجابة عن سؤال: ما الشعبوية؟" عنوان الكتاب الصادر حديثاً للمفكر العربي عزمي بشارة، عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، وفيه يشرح ظاهرة الشعبوية وسياقاتها التاريخية وجذورها وماهيتها، ولا سيما بعد أن راج استخدام المصطلح إعلامياً في وصف حركات يمينية نشأت وانتشرت خارج الأحزاب المعروفة، وفي وصف سياسيّين جدد برزوا وصعدوا من خارج المنظومات الحزبية في أوروبا والولايات المتحدة.

ينطلق الكتاب من نظرية الديمقراطية وبنيتها، وبالفصل بين ظاهرة الشعبوية في الديمقراطيات؛ إذ يُظهر تميّزها بوضوح على نحو مبيّن لحدودها ودرجاتها من جهة، وحالها في البلدان ذات الأنظمة السلطوية التي يصعب التمييز فيها بين الشعبوي والشعبي في المعارضة، كما يناقش مصادرها في الخطاب الديمقراطي ذاته.

في الفصل الأول، "الشعبوية والأزمة الدائمة للديمقراطية"، يرى بشارة أن ما يُعدُّ أزمةً تمرُّ بها الديمقراطية الليبرالية المعاصرة ليس ظاهرة جديدة، بل هو من تجليات أزمة دائمة للديمقراطية في ظروف جديدة.

وبحسب المؤلف، تتمثل عناصر هذه الأزمة الدائمة بثلاثة توترات بنيوية: التوتر الأهم هو بين البعد الديمقراطي المتعلق بالمشاركة الشعبية القائمة على افتراض المساواة الأخلاقية بين البشر، وافتراض المساواة في القدرة على تمييز مصلحتهم، التي تقوم عليها المساواة السياسية بينهم، ويقوم عليها أيضاً حقهم في تقرير مصيرهم، وبين البعد الليبرالي الذي يقوم على مبدأ الحرية المتمثلة بالحقوق والحريات المدنية، وصون حرية الإنسان وكرامته وملكيته الخاصة من تعسّف الدولة، ويتعلق بتحديد سلطات الدولة.

أمّا التوتر الثاني فهو داخل البعد الديمقراطي ذاته، بين فكرة حكم الشعب لذاته من جهة، وضرورة تمثيله في المجتمعات الكبيرة والمركبة عبر قوى سياسية منظّمة ونخب سياسية تتولّى المهمّات المعقدة لإدارة الدولة عبر جهازها البيروقراطي، من جهة أخرى.

وأمّا التوتر الثالث فهو بين مبدأ التمثيل بالانتخابات الذي يقود إلى اتخاذ قرارات بأغلبية ممثلي الشعب المنتخبين، أو بأصوات ممثّلي الأغلبية من ناحية، ووجود قوى ومؤسّسات غير منتخبة ذات تأثير في صنع القرار، أو تعديله، وحتى عرقلته، مثل الجهاز القضائي والأجهزة البيروقراطية المختلفة للدولة، من ناحية أخرى.

في الفصل الثاني، "الشعبوية: الخطاب والمزاج والأيديولوجيا"، يرى بشارة أن الشعبوية تستهدف الأحزاب والمؤسسات الإعلامية ومؤسسات مراقبة السلطة وضبطها، وهدفها الوصول إلى ديمقراطية شعبوية هي اسم لشكل الحكومة التمثيلية الجديد الذي يقوم على العلاقة المباشرة بين القائد والمجتمع الذي يحدِّده القائد بوصفه شبعاً محقّاً وطيّباً دائماً. وبحسبه، لا يمثّل السياسيّون في هذه المرحلة أحزاباً أو جماعاتٍ منظّمة بقدر ما يتحوّلون إلى ممثّلين؛ أي يؤدّون أدواراً، ويبحثون عن شروخ اجتماعية لاستغلالها خارج الانقسامات الحزبية.

يجد بشارة أننا نشهد تجاوز التطور الاجتماعي السياسي المتمثّل بتقسيم يسار ويمين إلى تقسيمات أخرى يمكن أن نطلق عليها "يسار" و"يمين"، شرطَ تغيير دلالة المصطلحات: "ثمّة تقاطعات كبيرة حالياً بين ما كان يسمى يساراً ويميناً في الموقف السلبي من العولمة ومن مؤسّسات الدولة الديمقراطية ومن الأحزاب والليبرالية، وغيرها".

ويرى أنّ أحد مصادر جمع الشعبوية بين اليمين واليسار هو "الفسخ النيوليبرالي بين الليبرالية والحقوق الاجتماعية والاقتصادية التي أنجزت خلال مرحلة دولة الرفاه، وفي الوقت ذاته بروز ظاهرة العودة إلى الهويات المحلية والإثنية في مواجهة العولمة [...] وهذا الفسخ أدى إلى تراجع الطبقة الوسطى وتضرّر فئات واسعة من العولمة والتجارة العالمية، وحرية تدفق الاستثمارات بحثاً عن عمالة أرخص في بلدان لم تتحقّق فيها بعد منجزات نقابية وحقوق عمّالية".

يناقش بشارة في الفصل الثالث، "في مسألة عدم الثقة بالمؤسّسات الديمقراطية"، موضوع عدم الثقة بالمؤسّسات الديمقراطية والاغتراب عنها، ويثير مسألة احتمال أن يوصل المد الشعبوي سياسيّين إلى الحكم، قد يلحقون ضرراً بمنجزات الديمقراطية الليبرالية، "لكنّ استنفار المؤسّسات الديمقراطية والصحافة وفئات واسعة من المجتمع الأميركي لحماية منجزات الديمقراطية في مواجهة شعبوية ترامب مثلاً واضح للعيان. كما أن قادة شعبويين يمينيّين آخرين في أوروبا الغربية لا يشكّكون في النظام الديمقراطي، بل يصرون على منجزات ليبرالية مثل حقوق المرأة (وحقوق المثليّين في بعض الحالات)، وأصبحوا يصوّرون هذه المنجزات كأنها ضمن الخصوصية الثقافية، وحتى الإثنية التي يجب الدفاع عنها في مواجهة المهاجرين المسلمين الذين يهدّدونها بحسب ادعائهم".

يرى بشارة أن الديمقراطيات الوليدة في الدولة النامية، بعد نشوة نجاح ثورة في إسقاط نظام سلطوي، والاستبشار بقدوم الديمقراطية، أو في ظروف التفاؤل فيما إذا نجح الإصلاح المؤدّي إلى الانتقال إلى الديمقراطية، غالباً ما تنتشر فيها "حالة من الخيبات وعدم الارتياح الشعبي من النظام الديمقراطي في الدول النامية. والمشكلة أن المواطنين في هذه الدولة لم يعتادوا التمييز بين الحكومة والنظام السياسي، ما ينذر بتحوُّل النقمة على الحكومة إلى موقف من النظام".

في الفصل الرابع، "هل فقد النظام الديمقراطي جاذبيته؟"، يقول بشارة إن الوهم أن الشعبوية اليمينية تستخدم أدوات لاعقلانية في مقابل الأحزاب التقليدية اليسارية واليمينية والنخب السياسية التي تمتاز بعقلانيتها هو خطأ شائع، وإن القوى المعزولة شعبياً في عصرنا، مثل اليسار الماركسي اللينيني التقليدي، أو التي تحوّلت إلى تيارات ثقافية نخبوية، توهم نفسها بأنها عقلانية، وأنّ تراجعها شعبياً سببه عقلانيتها.

ويرى المؤلّف أن الحلّ هو العودة إلى الصراع على الهيمنة عبر مخاطبة العواطف وغيرها من وسائل الاستراتيجية الشعبوية، مع أنها لم تتردّد في الماضي في استخدام الوسائل التعبوية، وتوظيف غيبيات أيديولوجيا الخلاص والحتميات التاريخية والنهايات السعيدة حينما كانت تحظى بشعبية داخل الطبقة العاملة. وحين ضعفت هذه القوى، انتقدت نفسها على أن الأيديولوجيا وغيبياتها والتمسّك غير العقلاني بها، منعتها من استيعاب التطوّرات في المجتمع الصناعي الحديث، والحل هو العودة إلى المنهج العقلاني.

ولا يتّفق بشارة، في النهاية، مع الاستنتاج القائل إن الديمقراطيات الليبرالية في حالة أفول بناءً على المعطيات التي تجلب للاستدلال على ارتفاع مستوى الدخل والتعليم في دول سلطوية، فهذه تؤشّر إلى رسوخ الأنظمة السلطوية واستقرارها.

لكن السؤال الذي يجب أن يُطرح حول الدول السلطوية المتطوّرة لا يفترض أن ينطلق من أن هذا التطوُّر يشكّل أزمة للديمقراطية، بل متى تنجب هذه العوامل نقيض السلطوية؟ وما هو احتمال انتقال هذه الأنظمة إلى الديمقراطية بسبب توسع الطبقة الوسطى وانتشار التعليم ومعهما الحاجة إلى حرية الرأي والتعبير عنه والرغبة في المشاركة؟

المساهمون