أبو الحسل.. لو عرفه ديريدا لاختبأ في البيت

أبو الحسل.. لو عرفه ديريدا لاختبأ في البيت

13 يوليو 2015
لقطة من فيلم وثائقي بعنوان "دريدا"
+ الخط -

ربما كان أبو الحسل أول تفكيكي في عالم البشر، هذا إذا أخذنا شخصيته على محمل الرمز، واعتبرناه إنساناً، لا مجرد "ضبّ" متوحد في صحرائهِ. أما إذا أخذنا شخصيته على وجه الحقيقة، فسيكون أوّلُ تفكيكي في الوجود حيواناً زاحفاً.

وقبل أن نواصل، من المفيد أن نعرف أن لقب "أبو الحسل" يُطلق على السيد الضبّ في التراث العربي اتباعاً لعادة لغوية وفكرية تقليدية مارستها اللغة العربية، ربما للتشديد على الرابطة الطبيعية بين الكائنات أو صلة القربى؛ وهل هناك ألفاظٌ أكثر حميمية من لقب الأب أو الأم حين تسبق الأسماء؟

والملحوظ أن الضبّ لم يتخذ في التراث العربي لقب "أبو الحسل" فقط، بل وعدّ "حكيماً"، كما عُدّ فلاسفة التفكيكية في الزمن الراهن، فلم ينطق بعبارة إلا وتلقفتها الألسن وسارت مثلا، على النقيض مما يشاع عنه من أنه كائنٌ أبله، إذا غادر بيته ضاع ولم يعد يستطيع العودة إليه.

نزعته التفكيكية تجسدت في حكايته الشهيرة التي اتخذ فيها دور القاضي المحكّم في قصة "التمرة" بين الأرنب والثعلب. صحيح أن هذه النزعة قاد جماعتها ورفع رايتها في الأزمنة الحديثة الفرنسي، جزائري المولد، جاك ديريدا (1930-2004)، ولكننا على يقين أنه لو سمع بمحكمة "أبو الحسل" العجيبة، لسلّم له الراية مختاراً، وتنازل عن قيادة حملته، وقبع في "بيته" تلميذاً متواضعاً.

جاءت الأرنب والثعلب إلى "بيت" أبو الحسل:
قالت الأرنب: يا أبا الحسل!
قال: سميعاً دعوتِ
قالت: أتيناك لنختصم إليك
قال: في بيته يؤتى الحكم
قالت: وجدتُ تمرة
قال: حلوة فكليها
قالت: فاختلسها الثعلب
قال: لنفسه بغى الخير
قالت: فلطمته
قال: بحقكِ أخذتِ
قالت: فلطمني
قال: حرٌ وانتصر
قالت: فاحكم بيننا
قال: قد حكمت

وبحكم من هذا النوع، قدم أبو الحسل سابقة تاريخية من سوابق ما تعرف الآن باسم "المدرسة التفكيكية"، حين وضع كل الأشياء على صعيد واحد، وتساوى أمامه الضارب والمضروب، أو، كما يمكن أن نقول اليوم، تساوى أمامه "النص الرديء" و"النص الجيد".

والأطرف من ذلك أنه لم يعلّق الحكم، كما تفعل تفكيكية ديريدا وتلاميذه، بل أصدره ضمنياً، فكلا الطرفين على حق في ما صدر عنه، أو بعبارة أكثر "حداثة" لا مجال للمفاضلة بين هذا السلوك أو ذاك، وبين هذه القصيدة أو تلك.

تفكيكية أبو الحسل تعطينا مفتاح التفكيكية المعاصرة التي حارت فيها الأفهام.

صحيح أن الأرنب أصيبت بالذهول أمام هذا النوع من الأحكام، وهو أمرٌ لا شك فيه، ويحدث عادة أمام كل جديد، وأمام كل اتجاه غير مألوف، إلا أن الثعلب، كما يبدو، هو المستفيد الوحيد من هذا الحكم، فقد اختلس التمرة وأكلها.

وانتهى الأمرُ، كما تفعل كل ثعالب هذه الأيام، ثعالب السياسة والثقافة والمال.. إلخ، ولا شك أنه ابتهج ببراعة ديريدا، أو "أبو الحسل" بلغته، وأصبح من أنصار التفكيكية المخلصين والمروجين لمقولاتها وأمثالها وحكمها. وأعتقدُ أنه هو من أخذ عبارات أبو الحسل واحدة فواحدة، وأعاد نشرها بين الكائنات، فأصبحت مذهباً، ذهبت أقواله أمثالا كما يقال.

المساهمون