خرائط الذات: إعارة جسد الفنان للعالم

خرائط الذات: إعارة جسد الفنان للعالم

16 يناير 2016
"في الطريق إلى تونس"، 2015
+ الخط -

لا يغيب جرح الهوية الفلسطينية وحصارها عن أعمال معرض بشار الحروب "خرائط الذات"، الذي يُفتتح اليوم السبت في "فضاء صديقة للفنون - غاليري آلان نادو" في تونس العاصمة، ويستمر حتى التاسع من شباط/ فبراير المقبل.

لا يعني هذا توجيهاً على مستوى المضمون، بل إشارة إلى ما يمكن تسميته بالهوية المبدعة لدى الفنان، والتي تختزن حدود المباشر والجمعي وتتجاوزهما نحو صيرورة ذاتية متعالية، بحثاً عن استخلاصات ورؤى جوهرية تخصّ الإنسان في معانيه وجروحاته الكبرى. وذلك بنفس القدر الذي لم تكن فيه "إلياذة هوميروس" مجرّد حكاية شعرية عن حرب طروادة.

يمكننا وصف بشار الحروب بالمشّاء، ذلك أنه يجوب الأمكنة معتمدًا على الكاميرا أو ما ستختزنه ذاكرته وما ستلتقطه يداه من مواد، وذلك لرسم خرائط ذاتية. إنها خرائط من نوع آخر، بلا خطوط طول وعرض وبلا حدود فاصلة ومراقبة. لنقل إنها خرائط محجوبة عن البصر ولا تتجلّى إلا بالبصيرة.

هو يرسم خرائط بتضاريس وأنهار وجبال وهضاب منسوجة من روحه في أطوار سكناتها وحركاتها ومعانيها وأتراحها. يروي بشار خرائطه ويرتوي منها وبها. ذلك أنها خرائط تمتحن مسارات عديدة تخص العلامات والذاكرة والأمكنة؛ وهي مسارات يخوضها الفنان بجسده ليشكل منها ومن خلالها هوية مفتوحة، تكون ضمنها الخبرة الجمالية خبرة ذاتية، وهذا ما يشكّل العنصر الجوهري في تجربته التي لا تستند إلى هوية مغلقة أو محدودة، فالحروب يجعل من فنّه مساراً تكون ضمنه الهوية صيرورة.

من خلال مسارات خرائطه، يعير بشار جسده للعالم، وفق تعبير فاليري وأيضاً مارلو بونتي عندما يقول: "نحن لا نرى كيف يمكن للفكر أن يَرسم؛ إن الفنان بإعارة جسده للعالم يحوّل العالم إلى رسم"، ليضيف، حتى نفهم هذه التحولات، "علينا العثور على الجسد الفاعل والراهن، ليس الجسد الذي يشكّل قطعة من مكان وليس حزمة من الوظائف، وإنما الذي هو اشتباك رؤية وحركة". من خلال ذلك الاشتباك ينسج بشار شكله الدال، أي طريقته الخاصة في صياغة العناصر الحسيّة، وذلك مهما تعدّدت لديه المحامل والوسائط.

من خلال أعماله، يعير بشار جسده، وهو على هيئة المسيح الذي يحمل آلام البشرية، أو من خلال عدسة تتحرّك في كل اتجاه، كانعكاس لأنفاسه اللاهثة. كل ما يبدو متمّمات أو عناصر، سواء في تنصيباته أو في رسوماته، أو عبر عدسته، تحيل إلى جسده، إلى حد تكون فيه رداءً له.

ليس ذلك فقط؛ بل إننا نجده وضمن رؤية دلالية، يوصل جسده بالإنسانية، مستندًا في ذلك إلى دلالات أيقونية يرسم من خلالها شجرة نسبه، لكي يعيدنا إلى تخوم تلك المعاني الكبرى حول التيه والعزلة وحول الجذور والاقتلاع وحول الذاكرة والأمكنة، وهي المعاني التي تجمعنا لكي تُنسج مأساتنا الإنسانية سواء كنا ظالمين أو مظلومين، ضحايا أو جلادين.

ولعل الفنان هنا يتماهى مع مبدأ فلسفي هندي قديم يرى أن "الأنا" لا يمكن أن تعرّف نفسها معرفة موضوعية، وإذا هي حاولت فعل ذلك، فستكون في حاجة إلى "أنا" مغايرة تصفها، وستكون الثانية في حاجة إلى ثالثة تقوم بهذا الدور، وهكذا دواليك.

والخلاصة أن "الأنا" في تفرّدها لا يمكن أن تكون وعاءً لمعرفة موضوعية، وليست المعرفة الموضوعية في رؤية الحروب إلا معرفة تخلّص الجوهري والمتأصّل، كجرح أو كقدر إنساني، من الزائف والدوغمائي والمصلحي كفعل بشري.

من هناك يبدأ خلاصنا وبداية تخلصنا من الأساطير التي صنعت فراقنا، حتى نستريح في هذا الحاضر الذي ينقصنا، على حد تعبير محمود درويش. هكذا، يأخذ بشار الحروب من فلسطينيته مقاسات الأنموذج لتكون مقاسات للمطلق في الفن، كما يأخذ الإذن من فلسطينيته ليغادرها بحثاً عن صورتها الخالصة والمكثّفة في الإنسانية.


اقرأ أيضاً: بشار الحروب: هياكل بشرية في انتظار المجهول

المساهمون