الكتابة برأسَين

الكتابة برأسَين

20 يناير 2019
ليليان بليدس/ الباهاما
+ الخط -

عادةً ما لا تثير الترجمة الشفهية - بنوعيها التتبُّعية والفورية - نقاشاً كبيراً، أو تحفُّظاً ملحوظاً، على الرغم من تأثيرها المباشر في مستمعيها الذين يُفيدون منها في الحين أثناء المؤتمرات أو إبان مشاهدتهم حواراتٍ أو خطابات على التلفزيون، أو إنصاتهم إليها في الراديو، أو في ظروف غيرها.

ولا يخفى أنها تؤثّر بالملموس في اللغة المتداوَلة أيضاً، بسبب إدراج مُزاوِليها في لغة الاستقبال كلماتٍ جديدةً وصيَغاً فريدة وعبارات طريفة، ولكونها لا تُوثَّق كتابياً، فهي لا تُنْتَقد بالحِدّة نفسِها التي تتعرّض لها الترجمة التحريرية، عِلماً أنّ مفعول الترجمة الشفهية ينتقل سريعاً إلى الترجمة التحريرية.

ولا يخفى أن الترجمة الشفهية أقدم وجوداً وممارسة من نظيرتها التحريرية، وأنها تقتصر على الاستجابة الفورية التي يقتضيها الاتصال المباشر، فتضمن التفاعل في عين المكان بين المحاضِرين والحاضرين، وتكون آثارها سريعة وفعّالة، على خلاف الترجمة التحريرية التي تستند في عملها إلى نص مكتوب تَسْهر على نقله أو تحويله أو إعادة كتابته أو تأويله في نص آخر ينتمي إلى ثقافة أخرى تُضيفُه، وأنها تنحو إلى الوصل بين الأمم، أي بين الثقافات، ولا يكون ذلك إلا بترك أثر مكتوب تحفظُه الأوراق، لكي يتجسّد في الممارسات والأذواق والأخلاق.

ويسْهر المترجِم الأدبي على أن يكون موسوعيّ التكوين، مطّلعاً على شتى أشكال المعارف والعلوم والقضايا التي تعرفها الحياة، وذا كفاءة قرائية وتأويلية عالية، ويشتَرِطُ عليه كثيرٌ من منظّري الترجمة وناقديها أن يكون شاعرَ الشاعرِ، أو كاتبَ الكاتب، بمعنى أن يكون أديباً يُحْكِم صنعة الكلام، ليتمكّن من ابتعاث نص أدبي يُضاهي نص الانطلاق، أو يتفوَّق عليه، ليِقلِب الآية فيُصَيِّرَ النصَّ الأصْلَ هو الخائنَ للنصّ الفرْع، أي المتَرجَم، حسب بورخيس، ليَكُون عملُه - المتمثِّلُ في صوغِ قولٍ ثان على قول أوّلَ في لغةٍ وثقافة أخرييْن - إبداعاً ثانياً وتخلُّقاً موازياً بعيداً عن كلّ إسقاط آليّ، مثلما يتصوّر مَنْ لا دراية لهم بالعملية الترجمية.

يتناول المترجم الأدبي النصوص الأدبية بصفتها قيمةً جوهرية فنّية، ويَمنحها البقاءَ ضِمْن التراث الثقافي للبشرية، أي يهبُها الاستمراريّةَ في الحياة، حسب فالتر بنيامين، عبر تحويلها ونقلها إلى ثقافات أخرى، جاعلاً منها نصوصاً حيّة في غير جِلدتِها الأولى، أي في ما يشبه التناسخ، وليُخرجَها من شرنقة اللغة الوحيدة إلى حيوات لامتناهية وعوَالِم مُمكنة هي عوالم نصيّة في لغات أجنبية، وغيرَ نصيّة قد تجد امتداداً لها في أعمال فنية أخرى من أفلام أو مسرحيات أو لوحات تشكيلية وغيرها، ما كان لها أن تطرقها لولا الجهد الجليل للمترجِم الأدبي، الذي يُدخِلها في أكثر من مجال تداولي جديد.

ولا ينحصر دور المترجم ببساطة في عقد الصلة بين المؤلِّف والقارئ ليُحقّق التواصل الأدبي بين الاثنين على أرض نصية فقط، وإنما ينهض بإعادة صياغة العمل خارج جغرافيته، وأثناء ذلك يغدو طرفاً مؤثِّراً في العملية، لأنه أثناء توصيله الإشارات اللغوية والثقافية يَعْرِف حاليْن مختلِفتيْن، فهو يصير، وفق خطاطة جاكوبسون، مُرْسَلاً إليه من جهة، لأنه يستقبل العملَ ويتأثّر به بشكل من الأشكال، وفي الوقت نفسه، ينقلبُ إلى مُرْسِل لذات النص إلى القارئ في اللغة المترجَم إليها، شاحنا ترجمتَه بغير قليل من ذوقه وأسلوبه وتمثُّلاته واقتناعاته، أي بذاتيته، فتكون الترجمة بذلك كتابةً مضاعفة للنص الواحد صادرة عن رأسَيْن.

وإذا كانت الكتابة الفكرية والنقدية يُمكن تأليفها بالاشتراك، مثل مؤلَّفات جيل دولوز وفليكس غَتَّاري، فالأكيد في الكتابة الإبداعية أنها فعْلٌ شخصي جدّاً وحميم، وتَحمل رؤية خاصة بحيث لا يُمكن أن تكون سوى فرديّة، مع وجود استثناءات قليلة جداً، اللهم إلّا ما كان من أمر الترجمة الأدبية، التي لا محيد عن صدورها عن رأسَين أو أكثر.

المساهمون