مسافات الفنان ومقاماته الداخلية

مسافات الفنان ومقاماته الداخلية

15 ديسمبر 2016
"قوقعة بحرية مع طيور" لـ خالد فرحان (من المعرض)
+ الخط -

ثلاثة من التشكيليين البحرينيين تجتمع أعمالهم في صالة بوشهري للفنون في الكويت هذا الشهر، قادمين من عالمين: النحت والتصوير، يرافقهم تقييم نقدي تضمنه ثبت مرفق على ورق مصقول، دارَ وداور حول تعابير مثل "التفكير البصري" أو "النص التشكيلي" أو "النصوص البصرية". وكلها تعابير تشير إلى خلط بين ما هو من عالم الكلمة وما هو من عالم النحت والتصوير؛ عالم الكتلة واللون.

العالم الأخير بالطبع كان يجب أن يكون موضع النظر وتشكيل الرؤية لا أخذ أسماء المنحوتات واللوحات منارة هداية للوصول إلى شاطئ هذه التجارب الفنية.

أحد المشاركين، النحات خالد الفرحان (1977)، وأصرُّ على أنه نحاتٌ وليس صانع أفكار، يقود البصر والحس إذا شئتم إلى أشكال نحتية صغيرة وبسيطة لا تعقيد فيها، أي لا زحام كتل متضخمة، طابعها تجريدٌ لتشكيلات من الطبيعة؛ أشجار على الأغلب، وقواقع وأسراب طيور صغيرة الحجم تحلّق، أو تتجمع على ظهر قوقعة بحرية.

لهذه التشكيلات، بعيداً عن تسمياتها التي ألصقها بها الفنان، وجود ملموس في الفضاء، وحين توضع في زاوية غرفة أو على طاولة أو أمام جدار، ستكون جميلة وممتعة للبصر، ولن تتجاوز هذه المكانة إلى ما سماه بعض من كتب عنها إلى أن تكون تفكيراً بصرياً لأن البصر يتلقى انطباعاً أولا قبل أن يفكر، أو يراد له أن يفكر.

قد يكون صاحب المنحوتة قد فكر بشيء ما، إلا أن المتلقي غير معني بما فكر به الفنان بقدر ما هو معني بمنتجه المادي، وبما سأفكر به أنا المتلقي بعد ذلك. ومثل هذه المنحوتات حين تجرِّد وتبسِّط الأشكال إنما تقود المشاهد إلى احتمالات فكرية متعددة، لا إلى فكرة محددة.

الفنان التشكيلي الثاني، سيد حسن الساري (1978، الصورة المقابلة لعمله "لعبة الشطرنج")، يحول لوحاته كما يلاحظ أحدهم إلى سردية بصرية، أي أنه يرسم شخوصاً تلطخهم الألوان في أوضاع مواجهة أو أوضاع حوار، كلٌ في فضائه. أي أنه يقص قصة ما أعطاها عناوين، فهى "اتجاه معاكس" مرة و "أصدقاء السياسة" و "العزلة المزيفة" و"الوجهة غير المرغوبة" مرات.

ومن الصعب أن نجد علاقة بين هذه العناوين الأدبية والأشكال البصرية، وخاصة وهي لا تمثل في أوضاع طبيعية، بل تقع في قلب فضاء متخيل ومساحات لونية متقاطعة، أي أن المنظور في اللوحة الواحدة متعدد بتعدد زوايا النظر، وهناك عدة مستويات للنظر كأنما تحدث القصة على مسرح متعدد الطبقات.

جماليات هذا النوع من التشكيل بظلاله وعتمة أشخاصه أو شبحية بعضهم تتبادل التمثيل الصامت، وتجعل المشاهد يلتفت بل ويستغرق في جماليات التلوين وبقعه وخطوطه التي لا تحدد أشكال الشخوص بل تشظيها وتحولها إلى مجرد مساحات لونية متشابكة تجعل الغرابة مثار إحساس بهذا المسرح، سواء كان مريحاً أو منفراً.

حين سألنا سيد الساري عن مغزى هذه العنونة التي لا تحتاجها اللوحة التشكيلية بالضرورة، تعلل بضرورة معرفة أي لوحة مقصودة حين نود الحديث عنها، وأن العنوان هو الفكرة التي تنطلق منها لوحته.

وكلا التعليلين ينقض أحدهما الآخر، فهوية اللوحة تنطق عنها أشكالها وخطوطها وألوانها لا اللافتة المعلقة عليها أولا، وفن التشكيل لا يبدأ من فكرة بل من نظرة ومعاينة بصرية بغض النظر عن ما يحمل الفنان من أفكار ثانياً. لا يعني هذا أن الفنان لا يمتلك قدرات على التشكيل والتلوين باهرة، بل يعني أنه يشغل نفسه بخط فني يتطفل على هذا العمل، أي التشكيل.

يبقى الفنان الثالث، محمد المهدي (1976، الصورة المقابلة لعمله "زوجان")، الذي يضع المشاهد أمام جدران كأنها مما شاهد في طفولته؛ جدران ترتسم عليها خيالات طفل؛ أو خربشات ملونة تختلط فيها أشياء متنوعة بلا تحديد. ويستدخل الفنان إلى عالم الطفل ملامح "باتمان" (الرجل الخفاش) جنباً إلى جنب مع تصوراته لقوس قزح أو شجرة أو رقعة شطرنج بدائية الأشكال أو بيت يبدو ما في داخله وظاهره في وقت واحد معاً.

بالفعل هذه محاولات أولى لطفل يلج العالم محتفظاً برؤية الوهلة الأولى قبل أن تقص أجنحة خياله قوانين الكبار وزوايا نظرهم إلى العالم من حولهم. بل إن الفنان نفسه يقدّم صورة شخصية له كأنما رسمها طفل مع بعض التدخل ورسم الملابس بمهارة تقانية بعيدة عن تخيّلات طفل.

هذه أوصاف، مجرد أوصاف بلا تدخل، لهذه التجارب الفنية. ولا يجب أن يتغلب الميل إلى تحميل هذه الأعمال أكثر مما تحتمل، كأن نتحدث عن تعبيرية ورمزية ولغة حلم وما إلى ذلك من انتحاءات يسقطها هذا الناقد أو ذاك الكاتب، ليجعل مكانة هذه الأعمال المتواضعة تجاور أو تضاهي أعمال كبار الفنانين.

بالطبع يمكن أن يكون تطلع بعضهم، كما عبر سيد الساري ذات يوم، "نحو التصاعد في ظل تسارع الحركة التشكيلية العالمية والتسابق"، مشروعاً، بل وحافزاً حيوياً، ولكن هذا "التصاعد" يتحقق اعتماداً على مسافات ومقامات الفنان الداخلية أولا، قبل أن يعتمد على ملاحقة نزعة حداثية هنا وأخرى هناك. الفن في النهاية تغذيه حوافز وقدرات الفنان الشخصية، وليس رغبته أو نيته أن يكون "حداثياً". هذه رغبات ونيات لم يفكر فيها حتى من يطلقون عليهم تسمية "الحداثيين" حين رسموا وحدّثوا.

المساهمون