أوغيت كالان.. ما تقوله القفاطين للمنفى

أوغيت كالان.. ما تقوله القفاطين للمنفى

05 فبراير 2018
(من المعرض، العربي الجديد)
+ الخط -

شعرت بداية بنوعٍ من البلبلة حال دخول صالة عرض أعمال الفنانة اللبنانية أوغيت الخوري كالان (1931)، في "معهد الفن العربي والإسلامي"، المستمر حتى 18 آذار/ مارس المقبل في مانهاتن السفلى بمدينة نيويورك. تدلّت على الجهتين اليمنى واليسرى، عباءات مصنوعة من أقمشة متنوعة وبألوان مختلفة. لم يكن سياق العباءات، أو القفاطين كما يطلق عليها أيضاً، واضحاً بالنسبة لي. ولا أنكر أنّني خفت أن تكون نوعاً من الاستشراق الذاتي. لكن عند الاقتراب منها والتمعّن في تفاصيلها، ومن ثم البحث المطول عن الفنانة وأعمالها، أخذ وجودها بعداً آخر بالنسبة لي.

إلى جانب العباءات احتوى المعرض على رسومات عديدة لكالان، تُظهر براعتها الشديدة في تحفيز مخيّلة المشاهد بلعبة الألوان والقليل من الخطوط، تاركة للألوان بتموجاتها وحركتها أن تستحوذ على اللوحة. وفي أعمال أخرى بدت وكأنها تطرز بالرسم.

ولدت أوغيت كالان عام 1931 في لبنان لعائلة معروفة، إذ كان والدها بشارة الخوري، أول رئيس للبنان بعد استقلاله، أما لقب كالان فهو اسم عائلة زوجها الفرنسي. في إحدى المقابلات التلفزيونية معها تتذكّر ليلة قبضَ الفرنسيون على والدها وعلى غيره من السياسيين اللبنانيين عام 1943، عندما أعلن إلغاء مادة في الدستور تتنافى مع الاستقلال. اضطرّ الفرنسيون، بعد ضغوطات شعبية، لاحقاً إلى الإفراج عنهم والاعتراف باستقلال لبنان.

كانت كالان الابنة الوحيدة بين ثلاثة أبناء ذكور وكان متوقعاً منها، كفتاة وامرأة، كما تقول في مقابلة تلفزيونية معها، أن تعيش بمعايير وطريقة معيّنة تتلاءم مع خلفيتها الطبقية، بما فيها الزواج من نفس الطبقة والخلفيّة، وإنجاب الأطفال والتصرّف بما يتناسب مع تقاليد مجتمع محافظ رغم الانفتاح الذي قد يُبديه أحياناً. قامت بتحدي عائلتها وتزوّجت من فرنسي (نصف فرنسي نصف لبناني) من خلفية اجتماعية مشابهة لعائلتها، لكن عائلة زوجها كانت ضد استقلال لبنان، مما شكّل أزمة كبيرة وتحدّياً لوالديها ليوافقا على الزواج.

أنجبت ثلاثة أطفال، لكن الفن بقي أحد هواجسها الرئيسية. عاشت في لبنان مع زوجها حتى عام 1970، حيث غادرت إلى باريس لتعيش فيها حتى عام 1987 ثم تركتها إلى الولايات المتحدة، البلد الذي طالما حلمت بالعيش فيه، لما فيه من حركات وعوالم فنية متنوّعة ومختلفة خاصة في تلك الفترة، كما تصف في مقابلة معها.

عاشت في مدينة نيويورك ثم في ولاية كاليفورنيا، التي أصبحت لعقود لاحقة مركز حياتها وعملها. وعندما أقامت معرضها الأول في بيروت عام 1970، وجّهت دعوة لفلسطينيين من مخيمات صبرا وشاتيلا، التي كانت تعمل معها وأسّست فيها جمعية "إنعاش". لم يكن عملها وتأسيسها لتلك الجمعية بالعادي، في ظل خلفيتها الطبقية والاجتماعية والحساسيات الشديدة التي ميّزت علاقات جزء من اللبنانيين مع اللاجئين الفلسطينيين. كما كسرت تابوهات اجتماعية أخرى في حياتها الشخصية.

بدايات كالان مع الرسم كانت في سن صغيرة. تصف في إحدى المقابلات التلفزيونية معها، أنها غطّت جدران غرفتها، ذات السقف العالي برسومات لشخصيات خيالية. تدرّبت وهي في الـ16 من عمرها مع فيرناندو مانييتي الفنان الإيطالي الذي كان يعيش في لبنان. درست الفن في الجامعة الأميركية في بيروت وتميّزت بداياتها بالرسم التجريدي الإيروتيكي، وتمركزت الكثير من أعمالها حول محاولة اكتشاف علاقتها/نا بالجسد.

ثيمة الجسد شكّلت بالنسبة لها هاجساً على عدّة صُعد انعكست بطرق مختلفة في أعمالها وحتى في طريقة حياتها. وهنا يأتي تصميم العباءة أو القفطان. تقول في مقابلة تلفزيونية معها، إنها لم تشعر أن ملابس وتصميمات دور الأزياء العالمية الضيّقة والمخصّصة في الغالب للأجساد النحيفة كانت تلائمها. فتقاطيع جسدها كانت أكثر طبيعية، لكنها لم تجرؤ على تغيير طريقة لباسها أو رمي تلك الملابس التي كانت تخنقها أو تقيدها إلا بعد وفاة والدها، وكانت والدتها قد توفيت قبله.

بعد وفاته أفرغت خزانتها من كل تلك الملابس وبدأت ترتدي قفاطين من تصميمها تشعرها براحة وتناغم مع جسدها. لكن الطبقة البرجوازية والغنية في بيروت، وسط الستينيات، لم تقبل ذلك وبدأت تقول عنها إنها "مجنونة" وفقدت صوابها، لأنها تدور في شوارع بيروت بتلك العباءات. 

تشرح في مقابلة معها أن ذلك سبّب لها أزمة كبيرة مع زوجها، الذي وجد الحديث عنها بتلك الطريقة مؤذياً ومُهيناً. شاءت الصدف أن تلتقي، بعد تركها لبنان إلى باريس، بمصمّم الأزياء الفرنسي الشهير بيير كاردان الذي أعجب بما كانت ترتديه، وطلب منها تصميم مجموعة كاملة، لتصبح تلك العباءات التي كانت مصدر سخرية، تصاميمَ تحتذي بها دور الموضىة الباريسية.

تصنع كالان تلك العباءات من أقمشة مختلفة، وتتنوّع النقوش أو الرسومات التي تخطّها فوقها. وفي حين يكون بعض تلك الرسومات تعبيرياً وتجريدياً يحاول اللعب مع تابوهات الجسد، تبدو رسومات أخرى أكثر تعقيداً وتحتلّ جزءاً من مساحة العباءة، ولا يمكن رؤية تفاصيلها إلا عند الاقتراب.

التطريز بالرسم، إن صحّ التعبير، هو ما يميّز أساليبها، بل إنها تُدخل التطريز الفعلي على قماشة بعض القفاطين. وتستوحي الفنانة اللبنانية لوحاتها من الثيمات التاريخية إلى جانب "العادي" و"اليومي". وتتنوع أساليبها بين لوحات بالكاد فيها خطوط لتكون أكثر إيحائية وتترك فيها غالباً عدداً قليلاً من الألوان لتسيطر على المشهد في اللوحة، وبين لوحات أخرى فيها حركة وانسيابية دائرة بحيث يمكن للمشاهد أن يتابع اللوحة من جهاتها المختلفة لتبدو وكأنها في تغيّر مستمر واحتفال بالألوان دون أن يؤثّر ذلك على تناسقها أو تقتصر على نمط بعينه.

تلاعب كالان بالألوان مثير ومختلف، وتستوحي من خلاله كذلك أعمال الفسيفساء وحياكة السجاد، وتستغل الحرية التي يمنحها إياها الرسم لتظهر روحها المتمردة والمشاغبة في تلك اللوحات.



اسم في مدار خاص

أقامت التشكيلية اللبنانية أوغيت كالان، معارض عديدة حول العالم: في نيويورك وباريس وروما والبندقية ولوس أنجلوس وطوكيو، إلى جانب معارضها في بيروت، وأهمها معرضها الاستعادي الذي أقيم عام 2013 في "مركز بيروت للمعارض". رغم ذلك، بقي اسمها نادر التداول - إن لم نقل مجهولاً - في العالم العربي خاصة، على الرغم من تميّز وغزارة فنّها، والنجاحات التي حقّقتها على مستويات عدة.



المساهمون