محمد عفيفة: اللامرئي في حقل السمك

محمد عفيفة: اللامرئي في حقل السمك

27 ابريل 2016
(من المعرض)
+ الخط -

لئن كانت الموضوعات المألوفة للبصر، بما تتوفر عليه من ثراءٍ جمالي، تُشكّل حافزاً لإشباع رغبة الفنان في الشروع بالرسم، فإن الموضوعات التي تخرج عن سياق المألوف والمعتاد، كما هو الحال مع موضوع "سمك وذاكرة" للتشكيلي ورسام الكاريكاتير الأردني محمد عفيفة (1973)، تُعدّ في الغالب، أفقاً مفتوحاً على التعبيرات والتخيّلات التي تشفّ عن مخبوءات الواقع والمألوف.

مشهديات "سمك.. وذاكرة" التي تُفضي إليها لوحات المعرض المتواصل، الذي اختتم أول أمس في مركز "دانتي أليغيري" في عمّان، ليست مجرد مشهديات للحوار التسجيلي بين جمالية الموضوع وغرائبيّته، أو بين الواقع ونقيضه، بقدر ما هي مساحةٌ مفتوحةٌ على علاقات التنافر والتجاذب بين مفردات الواقع (الحقيقي والتخيّلي) حين تستحيل على سطح اللوحة إلى واقعٍ جديدٍ متفلّتٍ من المرجعيات وتأطيرات العيان.

فالمرأة والسمكة والكرسي، بوصفها مفردات واقعية حقيقية تتداولها لوحات معرض الفنان المزاول للرسم الكاريكاتيري في صحيفة "العربي الجديد"، هي نتاج تدوير الواقع نفسه، بعد أن أصبح عُرضةً للتشكّل والانصهار مع مجازات التعبير، وترسيمات الحلم والمخيال على سطح التصوير.

تدوير ظواهر الواقع الجمالية والاجتماعية والسياسية، وإسقاط نزعة الفنان الذاتية عليها، وانعكاسها في مجالها العام من دون اشتراطات أو تحسّبات، يجد مداه الواسع وأرضيّته الخصبة في اللوحة التشكيلية، أكثر منه في الرسم الكاريكاتيري المرتبط، عادةً، براهنية الحدث، والخاضع لتوجّهات واعتبارات تتعلق بالمواقف المختلفة من الحدث نفسه "رغم خطوط التماس بين الرسم الكاريكاتيري واللوحة التشكيلية، إلا أن هناك مساحات تعبيرية لا يمكن تجاوزها أو اختراقها من خلال الرسم الكرتوني"، يقول عفيفة، مبيّناً لـ"العربي الجديد"، أن اللوحة التشكيلية تتيح له التحرّك مع الحدود القصوى للتجريب والتعبير من دون قيودٍ، أو إعمالٍ لمجسّات استشعار الموقف المقبول أوالمرفوض لهذا التعبير أو ذاك.

التسلسل المشهدي الذي يربط بين لوحات "سمك وذاكرة" بطابعها التعبيري المتقشّف والمُحكم التأثيث، يجمع في حوارٍ بصريٍ إيمائيٍ وشفيفٍ، بين الذاكرة والغريزة والسلطة. حوارٌ مفتوحٌ، ما أنْ تأخذ ملامحه الأولى بالتشكّل بين قطبي الواقع والمخيال، حتى يتكشّف عن سطحٍ موشومٍ بالرغبة والاستحواذ، ومجروحٍ بذاكرةٍ تُناور على أطراف النسيان.

فالذاكرة، باعتبارها المجال الحيوي لتفعيل الحوار بين مفردات لوحته، والدفع به خارج حدود الترميزات والإشارات التي ينطلق منها، ليست نقيضاً لنسيان ثاوٍ بين طيّات الزمان والمكان؛ إنها فعل استنهاضٍ وتحفيزٍ للنسيان نفسه "دائماً ما أجدني أسيراً لذاكرةٍ لا تتذكّر، إلا لتنسى"، يقول عفيفة، الذي تزامنت لوحته التشكيلية مع رسوماته الكاريكاتيرية قبل نحو عقدين، إلى جانب مزاولته لفن "المونتاج" والرسوم المتحركة، والتصوير الفوتوغرافي الصحافي.

الوقوف على الهواجس الواقعية والحُلمية التي تحكم العلاقة بين المرأة والسمكة، على وجه الخصوص في جُلّ أعمال المعرض، يُفضي إلى طيفٍ واسعٍ من الاستعارات التمثيلية والمجازية التي تتيحها تلك العلاقة.

فالسمكة خارج محيطها الحيوي (المائي) تُحيل إلى غريزة الصراع من أجل البقاء، فيما تمنحها خيوط العلاقة مع المرأة، بُعداً مؤنسناً، سواء من خلال تبادل الهيئة الشكلية بينهما، أم من خلال الحوار الذي يتّسم بالألفة والانسجام، حيناً، وبالنديّة والصراع، حيناً آخر.

أما الكرسي، بوصفه رمزاً للسلطة والاستحواذ، فهو لا يخرج عن كونه شاهداً مخاتلاً على مجريات "اللعبة" بين الطرفين. والنتيجةُ، لوحةٌ تستحيل بكلّيتها، إلى حقلٍ من الدلالات التي تُظلّل اللامرئي بأجنحة المخيال.

دلالات

المساهمون