سيميولوجيا الغضب الأصفر

سيميولوجيا الغضب الأصفر

22 ديسمبر 2018
(كاريكاتير لمجلة "ريفولوسيون 2.0" يستعيد لوحة ديلاكروا)
+ الخط -

كما أخذت مكاناً لها، بسرعة، في لوحة أوجين ديلاكروا الشهيرة "الحرية تقود الشعب"، كان يمكن لحركة السترات الصفراء أن تأخذ كذلك مكاناً بسهولة بين فصول كتاب "ميثولوجيات" لـ رولان بارت لو أنه لا يزال على قيد الحياة، فقد كان السيميولوجي الفرنسي يعدّد أساطير الزمن الحديث من نجوم الرياضة إلى ماركات السيارات، وها أن مصطلح "السترات الصفرء" قد "تأسطر" بسرعة قياسية.

قبل أسابيع قليلة، ماذا يمكن أن تحيل في أذهاننا عبارة "السترات الصفراء"؟ ليس الكثير بالتأكيد. حتى في فرنسا، هي ليست سوى رداء يتوجّب توفّره في كل وسيلة نقل. بساطة الشيء الذي تحيل إليه الكلمة، كان ربّما، مما أتاح للسترات الصفراء ذلك الانتقال السريع من "غرض" إلى "أيقونة"، فلا يحتاج الأمر سوى استعمال المتوفر للدخول في لعبة الاحتجاج الموسّعة. كما لا ننسى هنا الارتباط العضوي بين الشعار وفحوى الاحتجاج الأصلي (رفع أسعار البنزين)، قبل أن تدور الدوائر بكُرة الثلج فتتضخّم المطالب وتنتقل إلى مساحات أخرى، سياسية واجتماعية.

"السترات الصفراء" هي أنموذج عن قدرة العلامات على الاستقطاب. كان اختبارها الأوّل افتراضياً حين أطلق شخص غير معروف في المجال العام، إيريك درويه، دعوة على فيسبوك بارتداء السترات الصفراء وتعطيل حركة المرور احتجاجاً على قرار رفع أسعار البنزين. انتقل المدّ الافتراضي إلى الأرض في 17 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي. وبعد ذلك، ستلعب الصورة الإعلامية دورها في تحويل "السترات الصفراء" إلى ظاهرة موسّعة.

القدرة الاستقطابية للعلامة تظهر أيضاً في الطبقة السياسية، فمساندة (أو الشعور بضرورة مساندة) "السترات الصفراء" من الأشياء النادرة التي تجمع زعيمة اليمين مارين لوبين مع أبرز وجوه أقصى اليسار جان لوك ميلانشون.

جاء يوم السبت، 1 كانون الأول/ ديسمبر 2018، بصور "السترات الصفراء" مقتحمين معالم أساسية في باريس، لتصبح الاحتجاجات الفرنسية في الصف الأول من أحداث العالم. بعد ذلك بأيام، أشار موقع "لوبس" إلى أن المقال المخصّص في ويكيبيديا للسترات الصفراء قد انتقل إلى ما لا يقل عن عشرين لغة، وتدخل العبارة الفرنسية بشكل نهائي إلى قاموس المصطلحات الثورية في العالم.

انتقالات السترات الصفراء وتوسّعها لامس مساحات أخرى؛ لقد أصبحت هذه الحركة الاحتجاجية وشعور فئات موسّعة من الشعب الفرنسي أنها تمثّلها، دعوة عامة للتفكير في مسائل متعدّدة من إدارة الشأن العام إلى القوانين والأنظمة الاقتصادية، وصولاً إلى أسئلة حول المصير الذي تقود الرأسماليةُ البشريةَ برمتها إليه.

أسئلة لا نجد إجاباتها في ما هو جاهز ومكرّس مما ينتجه منظّرو الفكر السياسي، والحركة في الأثناء تتمخّص عن روح ابتكارية في الفعل السياسي تعتمد على اختبار ردود فعل السلطة ووسائل الإعلام، كما تستند إلى ميراث ثوري عرفته فرنسا ووجد في الأحداث الأخيرة مناسبة كي يصعد إلى الوعي من جديد.

وإذا كانت باريس دائماً عاصمة من عواصم الثقافة الأساسية في العالم، سواء الترفيهية منها أو النخبوية، ها هي تعلم أنها أيضاً خزّان للثقافة الاحتجاجية والعفوية. تستيقظ على شوارع مزدحمة بمن ملأت رؤوسهم مقولات الأندرغراوند، بروافده الأدبية والموسيقية والسينمائية. عليها أن تشعر أيضاً بما فعله يوتيوب بالناس، فقد جعل الثقافة الثورية مشاعاً بينهم، شبابهم بالخصوص؛ هؤلاء باتوا يربطون بسهولة بين أجهزة الكذب الإعلامي ولوبيات الاقتصاد، بين كتب التاريخ والخطاب الذي يجهّزه رئيس الحكومة لتهدئة الأوضاع.

السترات الصفراء كعلامةٍ مناسبةٌ كي نتساءل عربياً، وبلداننا أيضاً خزّانات احتجاج، كيف تبلورت علاماتنا الثورية، من شعارات وتصوّرات وفعل ميداني. نستطيع أن نضرب مثلاً بالثورة التونسية، هناك من أطلق عليها اسم "ثورة الياسمين"، حدث ذلك في وسائل إعلام فرنسية قبل أن يجري تعريب المصطلح. كانت وقتها أحداث الثورة لا تزال جارية على الأرض، وبعض القتلى برصاص البوليس لم يُدفن بعد. قد تصيب العلامات هدفها بعفوية، ولكنها تحتاج أيضاً إلى حسن إدارة.

المساهمون