نقطة بيضاء يستحيل بعدها العودة

نقطة بيضاء يستحيل بعدها العودة

20 فبراير 2017
("أسماك كبيرة" لـ ماكس بيكمان، 1927)
+ الخط -

خيط يفلت

عندما انتهى الراوي من وضع النقطة الأخيرة في المخطوطة، ذاب وتلاشى في الهواء.

قام الروائي عن الشاشة مع بزوغ الشعاع الأول. أخذ دُشّاً طويلاً، ثم حلق ذقنه، وهو يكاد لا يرى غير عينيه الحمراوين.

لا نوم! يتعيّن عليه أن يذهب اليوم للناشر، ويسلّمه المخطوطة حسب الاتفاق.

تناول الروائي بيضته المسلوقة، ثم كوب القهوة الكبير بلا سكّر، وخرج.

ظل يمشي في الطرقات، وهو يكافح كي لا يدهمه النعاس.

في تمام العاشرة والنصف، دق الروائي جرس الباب في شارع غراسيا ودخل.

شرب قهوته الثانية بملعقتَي سكر، وأخبرَ الناشر أن لا مزيد من التعديل. كفى! لقد وصلت إلى نقطر الصفر السردي. النقطة البيضاء التي يستحيل بعدها العودة للنص إلا مطبوعاً في كتاب.

قال الناشر، حسناً، سنرى ما تقول لجنة القراءة. ونقده مبلغاً أولياً، كإشارة على انتهاء الجلسة.

ما إن وصل الروائي غرفته حتى فتح الشبابيك ليجدّد الهواء النيكوتيني بثقَلِه غير المريح.

بعد وقت، تمدّد على فراشه منهوكاً وبكى.

ـ أستحق كل ما يحدث لي. ألم ينصحني كاتبٌ كهل بعدم الاقتراب من هذه المهنة إلا هوايةً؟ لم أسمعه وجعلتها لقمةَ عيشٍ ومطْرقةَ أرق!

فكر الروائي بأمور شتى، ثم انتبه إلى مصير الراوي، الذي كان طيباً ومطواعاً معه في الشهر الأخير.

قال بحشرجة: لقد قتلت المسكين. لن يُبعث إلا حين يقرأه قارئٌ مجهول.

أشعل سيجارة وتمنى لو يُبعث الراوي في جسد. صحيح أنه ظلمَه فاختار له سناً متوسطة، لكن من الصحيح أيضاً أنه كان ليستمتع بحديثه، لو عزمه على كأس نبيذ من نوع بورتو.

ترى ماذا سيقول له الراوي الذي قتله في الصفحة 222؟ اكتب حتى تروي غليلك من بحر الكلمات اللا ينفد؟ أي بحر؟ البحر العاهر والكلمات العاهرة؟ أم كان لينصحه مثل ذاك الرجل بألا يتورّط؟

آه يا جسدي.
آه أيها الراوي الذي لن ألتقيك بعد اليوم أبداً.
(فلست ساديّاً بما يكفي لأعود إلى قراءة عمل مطبوع).

أغلق الروائي عينيه على دمعة ثانية، وهو موقن أنه يكتب ويكتب بينما خيط الحياة يفلت من يديه.

أمنية دلغادو سوردو الحزينة

في وقت متأخر من الليل، حشرجَ دلغادو سوردو حشرجات ثقيلة متقطعة ثم مات. في حياته القصيرة كمساعد طباخ، قاطف برتقال، بواب مطاعم، كان دلغادو سوردو يحلم كثيراً، ومرة واحدة حلمَ بالموت وتمنى على الرب أن يوافيه وهو نائم بعد التسعين. وكما يرى حضرات القرّاء، لسببٍ ما يخصّه وحده، لم يلبِّ الرب أمنية دلغادو سوردو الحزينة. لا، وفوق هذا قصف عمره قصفاً.

هل يمكن بعد حادثة دلغادو سوردو الحديثُ عن أن في جعبة الرب أشياء من ذلك القبيل؟ وكذا نظامنا الصحي موضع فخارنا الوحيد؟ أنا سارد هذه السطور الشحيحة، التي انتدبني الكاتب لسردها بالصدفة، واثقٌ أنه لو كان بمقدور دلغادو سوردو العودة إلى الحياة، وسمعَ السؤال، لقالها بحسم: لا، حضرتك.

لكنني أنا المتعاطف معه ـ لأنني من الطبقة ذاتها ـ أكتبها الآن.

ليرحم شيءٌ ما دلغادو سوردو، وليجازِ الطرشانَ بلا إعاقة.



* شاعر وكاتب فلسطيني مقيم في برشلونة

المساهمون