150 عاماً على "رأس المال": ساخر من نهاية التاريخ

150 عاماً على "رأس المال": ساخر من نهاية التاريخ

26 سبتمبر 2017
(تمثال لماركس في مدينة شمنيتز، جنوب ألمانيا)
+ الخط -

تمرّ هذه الأيام 150 سنة على صدور الجزء الأول من كتاب "رأس المال" (Das Kapital) لكارل ماركس (1818-1883). اعتبر هذا الجزء، الصادر في 1867، العمل الأكثر تقدّماً في فهم التركيبة القائمة لاقتصاديات المجتمعات ووسائل وعلاقات الإنتاج فيها. وبعد رحيل ماركس، صدر الجزآن المتبقّيان، عامي 1885 و1894، والأخير حرّره فريدريك إنغلز.

على مدى عقود، قلما خلت رفوف المكتبات الكبيرة حول العالم من تلك المجلدات، والأمر نفسه نجده في العالم، وقد ساهمت ترجمات "دار التقدم" في موسكو بانتشار واسع لكتاب "رأس المال" عربياً.

كان القرّاء، سواء متفقين أو مختلفين مع مواقف ماركس السياسية، يجدون في العمل مدخلاً لفهم آليات السياسات الاقتصادية للرأسمالية. هذا الاعتراف يترسّخ أكثر فأكثر مع مرور 150 عاماً على نشر "رأس المال"، فلولا النقد العميق الذي طرحه هذا الكتاب لما كان بالإمكان إيجاد أرضية لفهم خارطة النظام الذي يحكم العالم.

رغم ذلك، ظل يوجد سؤال مفتوح حول صلة نقد رأس المال بالواقع، وخصوصاً مع حدوث متغيرات تاريخية أهمّها انهيار الكتلة الشرقية. غير أن المفارقة تتمثّل في تزايد الاهتمام بـ"رأس المال" حيث استفاد من توسع الاطلاع المعلوماتي، ولكن بالتأكيد مع اتضاح مدى جشع النمط الاقتصادي الذي يحكم العالم منذ خمسة قرون، وإنتاجه القائم على ما يشبه عبودية عابرة للشعوب والطبقات والحدود.

اهتم ماركس في سنواته التي كرّسها لتقديم فهم منطقي للرأسمالية بالتحولات التي ستمر بها المجتمعات لتقرير مصيرها، وليس بفهم الرأسمالية بمعزل عن هذا الكفاح. ويرى مؤمنون بتنظيرات ماركس بأن التهديدات الكبرى ضد الطبيعة والعدالة والحريات والمساواة تتطوّر وتتوضّح في المجتمعات الرأسمالية. رغم أنهم يأخذون عليه عدم تنبؤه كثيراً بصراعات قد تنجم بين أشكال مختلفة من الرأسمالية، وهو ما ظهر لاحقاً.

لكن فئة ظلت تنظر لأفكار ماركس بكثير من الحيطة، إذ يرون أنه لا يمكن اعتماد تقسيمه الطبقي الحاد: رأسماليون وعمّال. ويرى هؤلاء بأن المجتمعات طبقية بالفعل ولكنها تحتوي على أكثر من طبقة وضمنها توجد فئات متعددة، وبالتالي فإن دينامية الصراع ليست فقط بين المستغِلّين والمُستغَلّين.

كذلك تؤخذ مسافة من أفكار ماركس كلما تعلّق الأمر بقطعِيّته بأن كل شيء محكوم بالاقتصاد، وهو ما يهمّش مجالات كثيرة بما يعتمل فيها من أفكار وحجج وثقافات وتيّارات وغايات ونزعات وميولات. كل هذه الانتقادات لم تمنع العمل من المحافظة على بريقه، وغالباً ما يردّ مناصروه ذلك إلى أسباب عديدة؛ أوّلها أن قارئ الكتاب يستطيع أن يلمس بأنه يدور حول العصر الحالي كما يتحدّث عن العصر الذي كتب فيه. فتحليل ماركس للرأسمالية في علاقاتها الاجتماعية الأساسية والمنطقية لا يسري فقط على واقع القرن التاسع عشر أو الرأسمالية الصناعية البريطانية بل يمتد إلى ما هو أبعد خصوصاً أن تغلغل رأس المال في حياة الناس لم يكن في ذلك الوقت كما هو اليوم، وبالتالي فإن "رأس المال" هو أكثر أهمية اليوم مما كان عليه في 1867.

ثانياً، لا تذكر اليوم الليبرالية الجديدة إلا وتقرن بحجم الجشع والجحيم الذي تسبّبه لشعوب الأرض قاطبة، وهذا "الجحيم" من النقاط التي تناولها ماركس في زمانه وقدّم توقعات عنه. فكلتا الفترتين، فترته وواقع اليوم، تميّزتا بتكثف الأزمات الاقتصادية ومحاولات فرض العولمة، وانتفاخ لقطاع المال وعدوانية تجاه الحركة العمالية.

ثالثاً، لا تزال شيوعية ماركس الثورية بالنسبة لكثيرين أفضل خيار لدى "مجتمعات بعد الرأسمالية" (post-capitalist societies) حيث يتفق هؤلاء مع ماركس في أن تأزم الواقع الرأسمالي سيقود إلى نهاية هذه الأيديولوجيا، وهي مرحلة يتوقع الكاتب بيتر دروكر (في كتابه "مجتمع ما بعد الراسمالية"، 1993) أن تشهدها البشرية خلال العقدين القادمين.

فالرأسمالية، بنظر هؤلاء، فشلت، حتى وهي بلا منافس في ظل انهيار الأنظمة الاشتراكية، في إعلان انتصارها وتقديم العدالة والرفاهية والحريات بشكل معقول ومتساو بين الناس، بل على العكس تعمّقت أزماتها وتفاقمت وتعددت.

وينظر هؤلاء إلى إمكانية انتصار الرأسمالية كنوع من الطوباوية، ويتخذون من التغيرات المناخية دليلاً كافياً على عدوانية ووهم أن تبقى الرأسمالية خياراً مستقبلياً للخروج من الأزمات البشرية.

الأكثر أهمية في كتاب "رأس المال"، وليس بالضرورة أن يكون المرء شيوعياً أو ماركسياً ليكتشف ذلك، هو تبشيره بأن عملية خلق مجتمعات حرة تشترط مواجهة شاملة مع السوق واستغلال العمالة والخصخصة وهيمنة الحكومات.

هكذا يبدو جلياً أن شرائح واسعة من مثقفي العالم مقتنعون بأن ما جاء في "رأس المال" لا يزال، بعد 150 عاماً، قابلاً للاعتماد النظري والتطبيقي، كما لا تزال فئة تعتقد بصحة تنبؤاته بشأن انهيار الرأسمالية، تحت وطأة التناقضات الكامنة فيها.

وحين أتت الأزمات الاقتصادية بداية من 2008، عرفت هذه التوجّهات مزيداً من التوسّع، ما يجعل من الألفية الجديدة فضاء توسّع جديداً لكارل ماركس بعد أن اعتقد كثيرون أن فكره قد دفن في القرن العشرين.

في اليابان، ذهبت دور النشر، بالتزامن مع تلك الأزمة، إلى إعادة نشر ما جاء في "رأس المال"، بل إن "دار نشر الشرق" في طوكيو أصدرته على حلقات في كتاب رسوم كاريكاتورية كي تسهّل فهم محتويات مجلداته.

اهتمام اليابانيين ليس منفرداً في مجتمعات الرأسمالية المتقدّمة. فالأمر ذاته في ألمانيا التي كتب بلغتها، وفي دول الشمال الأخرى، والتي تظهر فيها تيارات اليسار الجديد، مثل الاجتماعيين الديمقراطيين كبدائل عن الاشتراكيين، وهؤلاء يتزايد اهتمامهم بطرح الفكر الماركسي حول الأزمات المعولمة في المجتمعات فيصوغون منها خطابهم السياسي.

يمكن تسجيل هذا الاهتمام أيضاً في صفوف الجيل الشاب في أوروبا، وعلى المستوى الأكاديمي أيضاً، وقد رصدت الصحافة توجهات متزايدة لإعادة قراءة "رأس المال" كمدخل لفهم ظواهر التأزم المجتمعي، الاقتصادي-السياسي.

وبالرغم من أن مجتمعات الشمال الأوروبي تعتبر مجتمعات رفاهية ورخاء وعدالة اجتماعي، إلا أن أزمات كثيرة بدأت تظهر بما في ذلك الفقر والبطالة واختلال التوازن بين ملاك الثروات، المركزة في أيدي نسبة تصل أحياناً إلى 4 %، وهي أمور تدفع بهذا الجيل، وليس بالضرورة على أساس أنه ماركسي الفكر، إلى قراءة "رأس المال" كمرجع أساس لاستيعاب الواقع وجعله قاعدة لوضع بدائل للمستقبل.

أن تعيش الأفكار التي وردت في كتاب صدر منذ 150 عاماً تبدو ضربة قاضية لمراهنات الرأسماليين على فكرة "نهاية التاريخ"، تلك الفكرة التي أطلقت ضمن حالة الزهو بسقوط جدار برلين، وكانت محاولة للتبشير بهزيمة كل بدائل الرأسمالية.

دلالات

المساهمون