رسائل محترقة إلى زيتون البحر

رسائل محترقة إلى زيتون البحر

11 ابريل 2019
سعاد العطار/ العراق
+ الخط -

لا يمكن الوصول إلى لغةٍ واقعية
كلُّ مفردةٍ ضبابيَّة
كلُّ معنى يشهد على انفطار الأرض
وسواد النخيل.
لا يمكن أن أرى
وأنا داخلٌ في عمى أبيض.
عمياء هذه الطرق الطويلة
عمياء أيامي التي لا تبرح مكانها.
أرشُّ على الأرض ماء الورد
لأعطِّرَ جسدي.


■ ■ ■


ليس هناك وقت
لأميِّزَ بين الظلِّ والحرير
دعني أكن بيجادةً
أو صليل السيوف الصدئة
في يدي يتفجَّرُ الماء
وأزلٌ يزول
وعلى الغصن المحترق
شمعةٌ من زمنٍ
يتأخر في المجيء.


■ ■ ■


أبدعتُ وجهي. أبدعته من جديد. أعدتُ النظر في ملامحه وأبدعته من جديد. كلُّ شيء يجب أن يكون جديدًا. الدمعة التي غابت عن الحياة والعواء المتواصل في الروح؛ كلاهما يجب أن يكون جديدًا. أبدعتُ وجهي وأبدعتُ الجملة المحذوفة بين هاتين الجملتين وأبدعتُ مصيرًا تهبُّ به الريح العقيم.


■ ■ ■


كيف كنت تختفي
عندما قاموا بإعدام العقول
في الثمانينات؟
أين كنت تختفي؟
وما الطرق التي استخدمتها
لأن تختفي؟
أساليبك وثيابك ونظارتك ولحيتك وحذاؤك وخطك. كيف كنت تبدع جميع هذه الأشياء، فرديةٌ مختلفة عن فرديةٍ أخرى؟ هل يمكنك أن تخبرني كيف وصلت إلى القناع الأخير؟ هل ما زلت مقنَّعًا بتلك الأقنعة؟


■ ■ ■


لم يكن شيء قبلك. أنت مندمجٌ مع العالم.
فالعالم محيط بك وعظمتك تحيط به.
لم يكن شيءٌ قبلك
لا ملكٌ جميلٌ ولا شاعرٌ
يحبُّ مشاهدة الطيور العارية في البحيرة.
على قلبك جلست كلمة. زرقاء
تصغر وتكبر وتشبه الشمس تارةً
وتارةً تشبه سماءك المثقوبة
وهذه دولة جديدة أرادت أن تهزم الشتاء والصيف
وهنا أضغاث أحلام تراها في طريقك
وهذه أشواك
وهذا زجاجٌ ينزف.
هذه الكلمات عصافير مصبوغة بالهوى
هذه الأطلال رسمٌ للأطفال
وهذا الحبُّ شيءٌ تطارده فراشتان
والتاريخ تمثالٌ أثريٌّ يتسابقون عليه.

سأكتب جملة طويلة. لا تنتهي.
جملة كبيرة جدًا.
ولدٌ يقفز عن الجدار العالي
ليُمسِك بطائرةٍ معدنية
أو غيمةٍ ضعيفة
أو نيازك فضولية.


■ ■ ■


غدًا سيحكم عليك الزمن. غدًا سوف يصعد طفلٌ على الجدار وينادي بأسمائك. ينادي ويغني كلماتك المهششة. غدًا ستعطي لوجهك قناعًا جديدًا لتغيِّبَ نفسك؛ وسوف يأتي طفلٌ آخر في دورةٍ أخرى ويصعد على الجدار ويلعنك ويسخر مما كتبت؛ وعودتك هذه كانت رجوعًا إلى أول نقطة منيّ سقطت منك؛ إلى شعورك بتلك الغربة الزهراء والشهية.

أجد هذه الساعة على الطاولة. أرفعها. أنظر إليها وأراها تشير إلى أربعين دورة في تلك اللحظة. آن أن تدفعني يدٌ وتلقي بي على السلالم أو على الأرض؛ والأرض نونٌ وروح؛ الأرض بطن الضاد.

أدفع بالقارب ويجرح يدي. لقد جرحها بخبثٍ هذا القارب المتألم.

أعود إلى معصيةٍ أخرى. أمشي على الشواطئ نصف عار وأتكلم عما أريد. أنا أحبُّ الكلام جدًا؛ هو الطريق المعبَّد إلى الجنون؛ والكلام شهوةٌ؛ بل قوة الشهوة ونارُ الشهوة؛ والكلام ليس فاكهةً؛ الكلام لعنةٌ كحديدةٍ مغسولة الوجه بالنار. الكلام. أحبُّ الكلام كثيرًا. نحن لم نتكلم. الكلام ليس من فضةٍ؛ وقد تمَّ خداعُنا بالصمت؛ والكلام كنزٌ عظيم.


■ ■ ■


إلى أين تريدين الذهاب
كانت قد ساقتني الموسيقى
إلى ساق الوردة
وكم كانت غريبةً
هذه الحروف
سينٌ. ألفٌ. قافٌ
ولستِ من يكتب القدر
وحرب الماء هذه
أنت غريقتها الوحيدة.


■ ■ ■


ابقي جميلةً
يا وردة
هنا موسيقيّون
يعزفون بعمق
وفي عزفهم
مصائب.


■ ■ ■


(إلى نجوان)

هذا بيتُنا
هنا ماتت أمِّي ومِتُّ إليها
هنا صار لي أبناء كثيرون
وأشجارٌ كثيرة
وها هي جذوري
ضاربة في الأعماق.

أنا طفولة جماعيَّة
ولستُ كما تزعم
أيُّها الفيضان.


■ ■ ■


هذه كلمات لا تعرف أن تنطق
هذه أبواب لا تعرف
لماذا يمضي عليها الزمن وتصدأ
هذه السماء ثابتةٌ
ووحده الزمن من ينقلنا من هنا إلى هنا
وكان فيضان المياه إعلان حرب
حربٍ ضد الطفولة
حربٍ ضد السلام
حربٍ ضد الروح
والإنسان هنا ابن الماء وابن البساتين
وأيامي ظلالٌ على جدران
تعلو إلى زرقة السماء
إلى أبراج الكنائس المغلقة
إلى منائر المساجد
التي تعشش فيها العصافير
وقد يكون العدو حجابًا
بينك وبينك
فضع مكانه أنت
أنت الواقع الذي يجب أن تراه.


■ ■ ■


أتنقَّل من مجرةٍ إلى مجرة.
أرى نفسي طائرًا مغطى بالطين تمامًا
مغطى بالحمأ
أرى نفسي عاصفة تتلو مصائبها على القبور
ثم يقوم الموتى ويطبِّلون
ويدبكون حتى بعد منتصف الليل.
الحياة فاصلة سعيدة بين زهرة وزهرة
بين عشبةٍ نديَّة
وعشبةٍ ملغومة بالمزق السوداء
رسائل محترقة لن تصل إلى زيتون البحر.
سأصل إلى الفقد المطلق
إلى مطلق الفقد
التواتر والطبول والشطر الأخير
من آنٍ غريب.
الأم سيدة البحر المفصَّل بالندى
والمطرَّز به
جاءت لتقيم في الأبد
في سُرَّة الأسطورة
وفي المَنيِّ الذي يسقط على القبور.


* شاعر من الأهواز

المساهمون