صدر قديماً: أحمد تيمور باشا و"معجم العامية"

صدر قديماً: أحمد تيمور باشا و"معجم العامية"

24 فبراير 2018
(منطقة جنوب الأزهر في القاهرة، 1934)
+ الخط -

يمكن أن نعتبر "معجم تيمور الكبير في الألفاظ العامية" نِتاج سنواتٍ طويلة من العُزلة والانطواء، وثمرة آلام فقدان الأحبة وانقطاع العزاء، حيث انعزل أحمد تيمور باشا (1871 - 1930)، في مكتبته الضخمة، وانكبّ يطالع مخطوطاتها ومطبوعاتها، وكانت حينها نادرة.

ومثل طائر كسير، ظلّ يلتقط من خباياها مادة معجمه في "العامية"، بعد أن قام بمسحٍ منهجي كامل لـكتب التراث، وأنصت بانتباه إلى محادثات الناس ومحاوراتهم في الحياة اليومية، بالإضافة إلى متابعة ما بدأ في الصدور آنذاك من مقالات الصحافة والبدايات المحتشمة للروايات والمسرحيات.

وقد انطلقت فكرة هذا المعجم - الذي نشر قبل سنتين من رحيل صاحبه - بملاحظة مدى انتشار السجل العامي، وانحسار الفصحى، طيلة عصور الدولة العثمانية، حين اقتصرت على الدوائر الرسمية والدينية. واللافت في هذا الإنجاز، الذي لم تُدرك بعد قيمته المنهجية، أن الكاتب المصري اتّخذ موقفًا ألسنياً وصفياً - غير معياري - سابق لعصره، عندما لاحظ - وهو في ذلك محق - أن حضور المفردات الدارجة وانضمام الدخيل والأجنبي، يعتبران تطوّراً طبيعياً للغة العربية، وليس انحطاطاً فيها.

وبفضل زاوية الرؤية هذه، لم يُقصِ تيمور الكلمات الدارجة، ملحقاً إياها بالدائرة الدنيا من سجلات اللغة، بل بالعكس جمعها وبيّن إمكانية رجوعها إلى أصول فصيحة أثيلة، كما جهد في ربطها إما بالمعاجم القديمة التي تشهد لها بصفاء النسبة، أي بما رشح إليه من استعمالات القبائل العربية، البائدة أو الشاذة. كما بحث لها عن شواهد في كتب الأدب، وما نقلته في أحشائها من محاورات الناس العفوية، بعيداً عن التنميط النحوي - السلطوي.

ويبدو أن هذه الطريقة تتمثّل في التذكير بأن للكلمات، التي ظاهرها عامي، أصولاً فصيحة، طواها النسيان وتجاهلها الناس، فعدّوها دارجة، مع أنها في حقيقة الأمر متمكّنة في المتن العربي القح، الذي نطقت به فِصاح العَرب. وترمي هذه الأطروحة إلى سحب البساط من الداعين إلى اعتماد الدارجة، وعدّها اللغة - الأم الحقيقية، بل ولغة مستقلة بذاتها، في حرب شعواء ضد الفصحى، خاضها بعض المستشرقين وتابعيهم من الداعين إلى إقصاء الفصحى، وعدم عدّها المصدر والمرجعية.

ومن جهة ثانية، احتوى هذا المعجم على العديد من المفردات الدخيلة والمعرّبة، ذات الأصول الأجنبية، التي انتقلت إلى التداول عبر اللغات: الفارسية والتركية أو إحدى الألسنة الأوروبية، طيلة الحكم العثماني، وفيه امتزجت بلغة الضاد، ومثّلت رافداً مُهمّاً لتطوّرها، ومدّها ليس فقط بوحدات معجمية، بل بأسماء الأشياء المادية، والمفاهيم المجردة، التي غيّرت رؤية العرب للعالم، لأنها أتت إليهم من عوالمَ جديدة مغايرة، هجمت على كونهم التقليدي ونسفت أركانه.

ولذلك، كان تيمور يذكر الكلمة الأجنبية، ويلحقها بما تيسّر له من المعلومات التي تتصل بتاريخ ذلك المفهوم، وتطوّره، وعلاقته بالفن والحضارة. ويكفي أن نقرأ، على سبيل المثل، مقالته المخصّصة لمدخل "تياترو" لنرى حجم التحوّلات التي طرأت على الثقافة العربية بفضل إدماج هذه المفردة قبل أن يستقر مقابلها الفصيح "مسرح"، مما يقرب هذا العمل - لو قُيّض له التوسّع أكثر - أن يكون من أول المعاجم اللغوية ذات الطابع الموسوعي.

كما التزم تيمور في الأجزاء الستة تضمين كل المعطيات الإضافية التي من شأنها أن تنير استخدام المفردات العامية والدخيلة، في أسلوب حَسن العرض، مضبوط المراجع والإحالات: يذكّر بسياقات كل الكلمات ويوثقها بصرامة كاملة.

تيمور باشا نموذج للمثقف الذي سبق ظهور نزعات التحديث في تناول اللغة، وهب حياته لخدمة الضاد، بالرغم من أصوله التركية والكردية، حيث شيّد مكتبة خاصة، اشتهرت باسم "الخزانة التيمورية"، وهي معلمٌ تقليدي، تواصل منذ العصور الإسلامية الوسطى، حين كانت الأرستقراطية تنشئ مكتباتها بجهود أفرادها من أجل النهل من المعارف، وقد يُقيّض لها أن تهضمها فتعيد إنتاجها، كما فعل تيمور باشا في معجمه.

دلالات

المساهمون