"ذكريات باريس" لـ زكي مبارك: مرافعة عن الجمال

"ذكريات باريس" لـ زكي مبارك: مرافعة عن الجمال

28 يوليو 2018
كاتدرائية نوتردام/ باريس
+ الخط -

اختار المفكر المصري زكي مبارك (1892-1952) لرحلته إلى باريس، عنوانا شديد الدلالة "ذكريات باريس، صور لما في مدينة النور من صراع بين الهوى والعقل والهدى والظلال"، ولعل هذا العنوان الفرعي الطويل سيكون الخيط الناظم لهذه الرحلة الشيقة، التي قام بها الكاتب، وهو طالب في السوربون، سنة 1930، والتي ستستغرق خمس سنوات.

فيها تعرف إلى باريس الحياة، وباريس الحياة العلمية، حيث درس على أيدي أساتذة كبار أمثال ميشو وماسينيون، وحصل على الدكتوراه في الآداب في سنة 1937 من جامعة السوربون.

وليس المجال هنا للحديث عن الحياة العلمية والثقافية لمبارك، فهي واسعة وغنية ولها قصص نجاحات وإخفاقات وأحزان، بسبب المضايقات التي تعرض إليها، لكن صاحب "مدامع العشاق"، سيقدم لنا، بطريقته الخاصة وثقافته المتنوعة، باريس أخرى بكثير من الجرأة، ومن جمال القبض على اللحظات.

لم يكن مبارك وحده المسحور بباريس، فقبله وبعده، سيسحر عشرات الكتاب من الشرق والغرب بهذه المدينة، وقد خرج ذلك الانبهار في شكل نصوص رحلية أو مذكرات أو أعمال روائية حاولت سبر أغوار هذه المدينة.

ومنتهى الانبهار عبر عنه المثقفون الذين زاروا هذه المدينة أو أقاموا فيها منذ القرن الثامن عشر إلى الآن.

وبالتالي، هو لا يشكل حالة مفردة، بل يدخل ضمن لائحة طويلة من الأدباء والكتاب والباحثين العرب، الذين ذهبوا إلى فرنسا من أجل الدراسة أو للسياحة أو لاستنباط نموذج عربي للتقدم، فوقعوا في شراك حبها. لا يخرج مبارك في "ذكرياته الباريسية" عن ذلك، وهو يتفوق على أقرانه في بعض التفاصيل، لكنه بكل تأكيد لا يتجاوز رشاقة أسلوب رفاعة الطهطاوي ولا إدهاشه، وتمكنه من "باريسه"، التي عشقها حقا.

الملهمة

يكتب مبارك رسالة طويلة إلى أحد أصدقائه يدافع فيها عن باريس، وعما تزخر به وأهلها من فضائل، ولا يعدم المقارنات بين بشرها وحضارتها وما تركه خلفه هناك في بلاد النيل، وإن كانت لا تصح المقارنة، بسبب الفوارق الكبيرة وأنماط العيش، وبسبب السبق الحضاري الذي كان في ذلك الوقت لفرنسا على مجموع الدول العربية.

وتكاد تلك الرسالة أن تتحول إلى مرافعة عن الجمال، وضرورة أن يحتذي بها العرب، ليسيروا في درب التقدم إن أمكنهم ذلك، مستشعرا في الآن نفسه العوائق الكثيرة التي تكبل كل محاولة للتقدم إلى الأمام، أو للعبور إلى فضاء الإنسان الحر والمواطنة الحقة، ومن بين هذه العوائق ترسانة النظم السياسية والثقافية، وركام العادات والتقاليد البالية، التي تحول دون كل محاولة التطلع إلى الأمام.

ومما جاء في الرسالة "لقد ألقيت في الشتاء الماضي محاضرة في نادي الموظفين عن تأثير المرأة في المجتمع الفرنسي، فلما نشرت خلاصتها في بعض الصحف لقيني أحد الذين طالت إقامتهم في باريس وأفهمني بلطف أنني لم أعرف باريس. ولا أزال حتى الآن أجد من يلومني على حسن الظن أسديه إلى باريس".

إن هذه الملاحظة التي تلقاها من أحد معارفه، كانت بسبب موقفه ربما، من موضوع حساس، لا يزال مطروحا حتى اليوم في المجتمعات العربية، وهو قضية المرأة، التي ليست قضية بسيطة كما يعتقد بعضهم، ولا يمكن معالجتها هكذا، باستيراد نموذج جاهز، ولا بالقول جهارا بمطالب تحريرها وحريتها، دون توقع ما سيحدث بعد ذلك من هجوم عنيف من قوى المحافظة في هذه المجتمعات، التي ألفت وضعا خاصا محفوظا للمرأة، ولدور الأسرة وللعلاقات التراتبية داخل العائلة، أولا، وفي المجتمع ثانيا، وبين الحاكم والمحكوم ثالثاً.

رد مفحم

يرد مبارك على تحذيرات صديقه بالقول في الرسالة نفسها "ألا فلتعلم يا صديقي أن الذي أحدثك به عن هذه المدينة هو الحق في أعماق الحياة الفرنسية، وأنه لم يصل أحد إلى مثل ما وصلت إليه مـن الألفة الصافية والصلات العميقة مع الذين عرفتهم وصادقتهم وعاشرتهم مـن الفرنسيين في باريس وغير باريس.

فالمرأة الفرنسية الصميمة الأصيلة يغلب عليها النبل والطهر والعفاف، وإن نبرة واحدة من صوتها الرنان لتبدل الأرض غير الأرض والسماوات، وإنها لتذل من تذل وتعز من تعز وهي في مكانها كالطود الراسخ لا تغلب ولا تنال. ولو كانت المرأة الفرنسية هينة إلى هذا الحد الذي يتوهمه الأفاقون الذين ترميهم المقادير تحت أقدام المومسات في باريس لما أنجبت فرنسا شاعرا ولا كاتبا، ولظل فقراء العواطف موتى الإحساس".

هي مرافعة عاطفية تتوسم بالعقل في غاية الروعة والجمال، من قبل مبارك، تحاول أن تنسف الحجج الواهية لكل المتحججين بفساد أطروحة الحرية ومخالطة الرجال للنساء، معتقدين أن الدور الرئيسي لهذا الكائن هو بين دهاليز البيت وفي ممرات غرفة الطعام وفراش الزوجية.

وهو في كل ذلك يعقد المقارنات لمحدثه لعله يستوعب الرسالة ويفهم المقصود، حين يبسط أمامه بعض الأفكار الجاهزة والأقوال التي تسري من أذن إلى فم، ويدعه يتأمل حال من قام بتصوير مدينة مثل القاهرة حين يزورها عبورا أو يعيش فيها تجربة خليعة، فهل هذه هي القاهرة حقا، المدينة المنفتحة التي تضم خيرة نخبة مصر في ذلك الوقت؟

يوضح موقفه قائلاً "والذين تراهم يتحدثون عن باريس ذلك الحديث الوقح المجرم المألوف هم قوم لا يزيدون في أخلاقهم ولا معارفهم عن شواذ الفلاحين في مصر حين يجيئون القاهرة عمدا ليطفئوا حرارتهم الحيوانية في بعض البؤر الموبوءة، ثم يعودون إلى أهليهم فيعطونهم من القاهرة صورة تجرح الطبع والذوق، وتبغض الرجل المهذب في مظاهر المدينة وآثار النهوض".

دلالات

المساهمون