#هنا_دمشق من هامبورغ بعينيّ بطرس المعري

#هنا_دمشق من هامبورغ بعينيّ بطرس المعري

15 اغسطس 2019
بطرس المعري/ سورية
+ الخط -
التقيت بـ بطرس المعري للمرة الأولى في الفضاء الأزرق حين شاهدت عام 2012 لوحته "كيوبيد الدمشقي"، يظهر فيها كيوبيد المعري مرتدياً عباءة مزينة بقلوب حب صغيرة وحذاء رياضي حاملاً كبادة بكلتا يديه طائراً بها في ليل دمشق.

كانت اللوحة مرفقة بحكاية:
في باب توما،
عندما يذهب أهل الفتاة في زيارة الأقارب مساءً،
يأتى كيوبيد الدمشقي ليلقي حبة كبّاد في بركة الدار الصغيرة،
فيبعثر ضوء القمر الساكن فيها
وينثره ياسميناً في صحن الدار،
معلناً لها أن جارها يحبها كثيراً.

بدأت بمتابعته، ثم أصبحنا أصدقاء افتراضيين لعدد من السنين، بعدها انتقلنا إلى الصداقة الواقعية حين التقينا في بيروت حيث حضرت معرضه في غاليري "تجليات".

كلّ لوحة من لوحات بطرس تحمل معها حكايتها، فنحتار من الأجمل.. اللوحة أم الحكاية؟

الملائكة في لوحاته يظهرون بأحذية رياضية تسهّل عليهم الانتقال في سماوات دمشق بالسرعة المطلوبة، تماماً كما أهلها الذين استعاضوا عن أحذيتهم الرسمية وعن الكعوب العالية في فترة الحرب السورية بالأحذية الرياضية ليتمكنوا من التنقّل السريع في شوارع دمشق في حال حدوث اشتباك أو تفجير أو ليتمكنوا من السير براحة لمسافات طويلة في حال ندرة المواصلات.

ملائكة بطرس هم من أهل المدينة بلباسهم التراثي الدمشقي، همّ يد الله التي تحمي سماء دمشق وتطير فوق الجامع الأموي في عديد من لوحاته، وكأن الأموي محور العالم. وفي لوحات أخرى يظهر الأموي إما في خلفية اللوحة أو تطلّ عليه نافذة ما، في بيت عربي تتناقل فيه النسوة أخبار الجارات وهن يشربن قهوة الصباح.

كلّ لوحة حكاية بتفاصيلها؛ دراويش وقديسين تحيط هالات النور برؤوسهم وملائكة وحَمامَات رقيقة وحسناوات هاربات من السير الشعبية، حتى البراق يتجلّى في لوحات بطرس على هيئة حصان مجنح له رأس امرأة جميلة وذيل الطاووس أمير الطيور، ويزين تاج يرمز إلى الملكية رأس هذا المخلوق الفريد مكملاً إرث الرسام الشعبي أبو صبحي التيناوي ليحميه من النسيان والموت، يلجأ إليه بطرس مضيفاً هالة قداسة ونور حول رأس البراق المُصاحب بالملائكة ليحمي الشام حربها في دعاء يتجسد بعنوان اللوحة "يا براق النبي، كرمال النبي، عرّج على شامنا" التي رسمها عام 2014.

يرقص الدراويش في لوحاته رقص السماع الصوفي بتنانيرهم الدائرية رافعين يداً، خافضين الأخرى مناجين الخالق بعينين مغمضتين راسمين الصلة بين العبد وخالقه في دعوة أبدية للسلام تزامن الحرب الدائرة على الأرض، وتحوم الملائكة حولهم لتمتزج روحانيات المدينة في كلٍ واحدٍ رهيف وشفاف.

في لوحاته، دعوة جميلة للحب تتجسّد في قبلات العشاق "أجمل القبل هي تلك التي اعتلت تلّة من أشعار"، ومعظم شخصياته قديسين تحيط رؤوسهم هالة من نور حتى لو كانوا بشراً عاديين وكأنهم اكتسبوا قداستهم من مدينتهم دمشق أو من بقائهم فيها، يرسمها بطرس من هامبورغ الألمانية الباردة المعتمة كما يشكو أحياناً.

ولكي يشعرنا بالدفء رغم البرد الذي يشعر به يصور في لوحاته طقوس حمّام السوق بطريقته ويستحضر حكواتي قهوة النوفرة من قهوة المنارة لصاحبها أبو صياح الهامبورغي في الطرف الآخر الذي يبعد 3990 كيلومتراً عن عالمنا الصغير دمشق.

من هناك يتابع ما ترك من روحه هنا عبر العالم الافتراضي، فيعيش يومياتنا ساخراً، مثلنا بمرارة.

أحب لوحته المعنونة "رأيت في منامي أنو الملاك جبريل جاب مازوت لصوبية أمي" 2014، وهي سنة من أبرد سنواتنا مع الانعدام الكامل للمحروقات، تظهر الأم ملفوفة بلحاف دافئ -كمعظم السوريين- قرب مدفأة مازوت مطفأة فيأتي إليها الملاك جبريل حاملاً في يده بيدوناً صغيراً من المازوت ليملأ طابة المدفأة، ألوان اللوحة دافئة، وكأنه الملاك ملأ مدافئنا المطفأة أيضاً، فتندمج الحكاية والصورة معاً كأسلوب يميزه، أي القصيدة وتجلياتها تماماً كما في المنمنمات.

يحب بطرس تصوير شوارع وحارات باب توما التي خطى عليها بقدميه وهو طفل بما تعنيه له في ذاكرته وللدمشقيين من تفاصيل دافئة مرتبطة بيوميات حياتهم، ففي لوحته "بحبك على قد ما مرق عشاق على هاد الدرج" يصوّر درج العشاق في ساحة باب توما والذي ظلّ مغلقاً طيلة سنوات الحرب لوقوعه قرب المخفر حتى نسوه من بدأت قصص حبهم على درجاته، أما العشاق الجدد الذين تفتّحوا مع الحرب ولم يعرفوه إلا من حكايات آبائهم فاكتشفوه من فترة بسيطة، بعد إزالة الحواجز من الساحة، فعاودوا عليه حباً كحب أهاليهم.

أحب لوحة أخرى له: "المسيح السوري يصلب من جديد" /2013 يظهر فيها عيسى عارياً، مفخخاً بالأحزمة الناسفة وسط طاولة العشاء الأخير المستديرة وكأننا عالقين في حلقة مفرغة من التساؤلات، يغلق تلاميذه المحاطة رؤوسهم بهالات قداسة عيونهم عنه وهم يشربون كؤوس نبيذهم، فهل هناك صورة أشدّ إيلاماً من أرض صُلبت قداستها ثم أغمضت عينيها كي لا ترى ما يحدث لأبنائها؟

يلعب بطرس على إيقاظ الحنين الحاد كسكين في: "هنا دمشق" وهي لوحة تحمل فقط أسماء لأمكنة مع بعض المنمنمات الصغيرة. أذكر حينها أنه طلب من أصدقائه الفيسبوكيين أن يمدّوه بأسماء أماكن من دمشق أو أشياء علقت بذاكرتهم تاركة فيها فجوة أو ذكرى جميلة وقد شاركت ببعض الإضافات عليها.

كل اسم مذكور فيها يأخذنا في خيال ذاكرتنا إلى ذاك المكان المُشتهى أو تلك الصورة: كشاش حمام، هريسة، النوفرة، صبارة مزاوية، بردى، سوق البزورية، برهان كركوتلي، الباب الصغير، عين الفيجة، تسجيلات ناي، بياع الناعم، شام شريف....

يمكن أن يقف المرء أمامها ساعات طويلة وهو يقرأ أسماء الأماكن ويستحضر تفاصيله فيها.

علق له عليها أحدهم: "اشتياق" .. أجل، فمن غاب عنها مشتاق، ومن بقي فيها مشتاق أيضاً، لتلك التي في ذاكرته، وليس لدمشق الآن، وهنا.. حزينة ورمادية مغبرّة وكأننا عالقون في برزخها، لا نستطيع العودة بزمننا إلى الخلف، ولسنا متفائلين بالزمن القادم.

يبرع بطرس بالتنقل بين تقنية وأخرى ويدمج بين اللوحة والفوتوغراف، فيضيف على اللوحة نفسها عناصر مادية بتشكيلات مختلفة تغير دلالتها ويلتقط لها صورة فوتوغرافية، فتارة نشاهد جسد المرأة العاري محصوراً بين سكين وشوكة وتارة مع جواز سفر ألماني أو محرمة مدماة، فتُقرأ كلّ جزئية برامزة مختلفة عن شقيقتها.

يعمل بطرس أيضاً على تصميم شخصيات باستعمال الكولاج من الورق الأسمر وقصاصات الجرائد والمجلات في سلسلة "أبو عذاب آند فريندز"، أحد أبطالها حمار لطيف، وهي سلسلة ساخرة تنتمي إلى الكاريكاتير الذي يستمد مواضيعه من الأحداث الساخنة التي تشعل مواقع التواصل الاجتماعي، معتمداً على تقنية الكوميكس من حيث ظهور بالونات الحوار لدى كل شخصية.

أحب عمل بطرس، والطريقة التي يفكّر فيها، أحب إصراره على نشر الجمال والحب في زمن أعوج حتى ولو كان يصلني عبر شاشة الموبايل. 

زوارقنا الورقية البيضاء الهشة وسط بحر أزرق تظهر في كثير من لوحاته كـ " أنا الأم الحزينة" من سلسلة "الغيرنيكا السورية"/ 2019 وهي جدارية بقياس 260/170 سم تصوّر أمّاً غارقة في حلم عن زوارق ورقية تطفو في فراغ الغرفة الوطن الأشبه بزنزانة من حيث توزع عناصرها.

وكما غيرنيكا بيكاسو، تصوّر مأساة الحرب المتجسّدة بالسواد والكوابيس المحيطة بالأم النائمة الهادئة على عكس نسوة بيكاسو الصارخات الباكيات، مبتعداً عن تصوير مظاهر الموت مستعيضاً عنها بالنوم كشقيق له في جوهر أقل عنفاً ظاهري عن غيرنيكا بيكاسو، لكنه في الواقع عنف داخلي يمارس يومياً على الأرواح فيغتال الحياة والأحلام والوجود ذاته.

****

من هناك، من هامبورغ التي تبعد عن دمشق آلاف الكيلومترات وتحديداً نهاية شهر أيار/ مايو الماضي قام بطرس بحملة تضامنية على موقع فيسبوك مع فنان الخط العالمي منير الشعراني المقيم في دمشق لعدم حصوله على فيزا المملكة المتحدة ليرافق معرضه "إيقاعات خطية" المقام Stories ART Gallery في لندن رغم استكماله لجميع الأوراق المطلوبة ووجود الدعوات المطلوبة من أكثر من مؤسسة بريطانية مرموقة فقط لأنه سوري.

كان شعار الحملة حينها "من لندن هنا دمشق" حيث قام الأصدقاء بنقل مجريات المعرض مباشرة من لندن على صفحاتهم كي يتابعه الشعراني. سوريون نحن، شعب عنيد، متشابكون بذكرى جغرافيتنا، لحظاتنا، أماكننا، شوارعنا وروائحها، وحتى برامجنا التلفزيونية والإذاعية التافهة، أنهارنا وحقولنا.. ومهما ابتعدنا، مهما اختلفنا، سنظل شجرة ذاكرة كاملة مترابطة الجذور.
من دمشق.. هنا دمشق..
من هامبورغ.. هنا دمشق..

عن بطرس المعري: إجازة في الفنون الجميلة، قسم الحفر- دمشق، دبلوم الدراسات المعمقة DEA ماستر، EHESS باريس، حول التصاوير الشعبية في الشرق الأوسط. دكتوراه في مجال فن الكتاب المصور EHESS باريس، حول هوية الفن في سورية. مدرس في كلية الفنون الجميلة في دمشق، شارك في العديد من المعارض داخل الوطن العربي وأوروبا. حالياً مقيم ومتفرغ للعمل الفني في هامبورغ-ألمانيا، وصديقي، خارج العالم الافتراضي.

*كاتبة ومخرجة مسرحية سورية

المساهمون