ألّا أراكِ

ألّا أراكِ

22 مارس 2017
هدى رجب/ تونس
+ الخط -

1

لولا أنّ الرّيح كانت باردة جدّاً، وأنّكِ كنتِ وحدك، ربّما لأحببتِ النّهر، لا شيء سواهُ أنقَذَنا من مأزق الواقعيّة الشّديدة، حتّى دونَ الذّهابِ إليه، كانَ يكفينا وجوده، وجودُ نهرٍ نحلمُ قربه، نرمي أمنياتنا على أطرافه ونتأكّد أنّها مثله، لا تتوقّف ولا تصبحُ بحراً، هي ذاتها، تشبِهنا، تملكنا ونملكها، نلمسها بقبض اليد وفتحها ولا نستطيع إمساكها، نراقبها تغيبُ، ونغيب.

ربّما هو المأزق أنّها ذاتها الأشياءُ، ليست ذاتها وأنتِ وحدك، ربّما لن يعني لكِ الجبل حينها إلا الخوف، والطريقُ، لن يعني إلّا المسافة.

تصدّقين أن الطريق أيضاً، ليس فقط عن الوصول، أنّنا كنّا نخاف الوصول ثمّ أن لا يحدث أيّ شيء، حلمنا دائماً أنّ هناكَ أشياء عجائبيّة سحريةّ ستحدّث إن تسلّقنا الهضبة كلّها، لم يحدث أن تسلّقها أحدهم، كنّا نجرّب منها النّصف دائماً، النّصف ليس سعادة وليس حزناً، ربّما هو آمنٌ فقط، أو ربّما هناك من تسلّقها وبقي صامتاً، أنّ لا حلم هناك، لا سحر، مجرّد أرض كالبقيّة، مجرّد أرض يابسة، حلمنا أنّها حبلى بكلّ العشب.

ربّما هو المأزق ذاته، أن أجرّب الأشياء وحدي، أن أعدّ طعاماً يكفي لشخصٍ واحد، أن أرى وحدي قطاً يتعثّر وهو يسرقُ شيئاً ما، أن لا أروي لك أيّ شيءٍ عندما أراك، أو ربّما، أساساً، المأزق، أنّي لا أحلم سوى بأن أراك، ثمّ، أن أخاف، أنّي سأكون أيضاً وحديَ، قربك.

فلنتّفق إذن، ألّا أراك، انتظارك أحلى، تخيّلكِ تنادين باسمي قرب نهر أسفل هضبة، ظننا دائماً أنّها جبل من الأحلام.


2

تلك المنحدرات الخفيضة، مع عُشبٍ يكادُ يعلو، وقليل من حجارةٍ مُلوّنة حملتها الريح من جبلٍ قريب، ثُمّ، -ومع أنّ البحرَ بعيد- طريقٌ كأنّه لِجرّ السُفن، كانَت هي تعرفُ خطواته، تشدّني من طرفِ يدي، تلتفتُ فِيّ كلّ ثانيتين، وأنا، أتبعُ الزّهري الخفيف تحت ريفِ وشاح الخصر، وفجأةً، إذ تلتفتُ، أغمض عينيّ كأنّي أتبعُ العطر، وكأنّها تُصدّق، أنّي فقط، فيها ومنها، أتبعُ العطر.


3

- قل لي أحبّك..
- أحبّك..
- لا لا، قلها لاحقاً عندما ننسى أنّي قلتُ لك.

"قل لي أحبّك" هي ذاتها "قل أنّك عَطِشٌ الآن وكن صادقاً".

يصير الحبّ مراتٍ لعبةً لكسر ثقل الوجود، تجربةَ بقاءٍ دون وزن، كما لو أنّهُ اقترابٌ من كائنات مُفترِسة لا نعرفُ الكثير عن طريقتها في الافتراس، الدّهشة والتّجربة والمراقبة أيضاً حواملُ جينات أصيلة لترويض الخوف.


4

كيف يصنع بنا الخوف هذا؟ كيف نخاف ما نحبّه؟

أشياءٍ كثيرة لا نعرف عنها إلّا خوفنا منها، الخوف أيضًا ثقافة وطريقة، تعرفين الأطفال الذين يدرّبون أنفسهم ليلاً على فقدان آبائهم؟ أو البحّار الذي دفعه خوفه من البحر لفهم كلّ البحر، أو من لم يعش تجربةً ما لكنّه تخيّلها وصنع من الخيال تجربة قد تفوق حدّة المادة؟

المادّة؟ أجل، القُبلة مثلاً، القُبلُ مواد حادّة وسريعة الاشتعال.


5

على ضفّة النّهر، كنّا نراقب الطّائرات ونقول: هي أبواغٌ تطير، وكان يُضحِكك اللفظ: "بوغ، أبواغ"، ربّما من الطّائرة رآنا أحدهم وقال: "رأيت نملة"، ربّما أنا وأنت بالنّسبة له كنّا نملة واحدة.

الآن أراقب الطّائرات، ولا أراها إلّا كطائرات، بللورٌ وصفيح.

بالمناسبة؛ عندما تنفخين بلطف على مجموعة نمل تتوقّف جميعها لبرهة بشكل مضحك، جرّبتِ هذا؟
سيعجبك خوفُ النّمل، حتّى من النّفخات الصّغيرة.


6

أشتاق أحلاماً عرفت دائماً أنّها لن تتحقّق، لكنّي عشتُ فيها، أنقَذَني تخيّلها.
هل كان يجب حقّاً أن أتوقّف عن انتظارك؟

هو التوتّر العميق، أن نَخرُجَ، أن نكشف ذواتنا، وأن نتكلّم بجديّة عن أيّ شيء.

هو الذّعر، كم هي ذواتنا مغلقة، وكيف كلّ ما نحكيه ونشرحه ونقوله، لا يتعدّى أن يكون عِطراً خفيفاً، من لدن العطش.

* شاعر سوري مقيم في إسطنبول

المساهمون