أصداء خمسينية تضرب ثقافتنا

أصداء خمسينية تضرب ثقافتنا

29 ديسمبر 2017
(جزء من لوحة لـ منى مرعي)
+ الخط -

بعد أكثر من عقد من سنوات عربية طرأت فيها طوارئ على ثقافتنا، قلبت مفاهيم كانت تسير على أقدامها فأصبحت تسير على رؤوسها (الثقافة.. ثقافات، والوطن.. أوطان، والشعب.. شعوب، إلخ)، أصبح من الضروري، ونحن نغادر عاماً ونفتتح آخر جديداً، تغيير عادة تقديم جردة ببضائع الماضي، وتوقع أو تمنّي أن تكون بضاعة المستقبل أغنى وأقوم.

الأجدى من كل هذا لفت الانتباه إلى ما يسقط في مناسبات من هذا النوع عادة؛ أعني تعليل الهزال إن وُجد، وتعليل ما تتوهّمه بعض الأفهام شحماً في مَن شحمه ورمُ، أي الوهم الشائع والمعتاد، صاحب الحظوة بأعلى عدد من المصفقين والراقصين وحصادي آيات الثناء والتمجيد. وثقافتنا، وسيأتيكم ما نعنيه، جمعت الهزال والتوهم من طرفيهما.

من الممكن تقديم إحصائية بعدد مهرجانات قامت ومؤتمرات عُقدت وجوائز مُنحت ومعارض كتب تكاثرت في هذه الجزيرة أو تلك من جزر الوطن العربي، وتذييل كل هذا بأننا لا زلنا بخير ثقافياً على الأقل، لا سياسياً ولا اجتماعياً ولا اقتصادياً ولا علمياً بالطبع، لأن الثقافة حين تسير على رأسها لا تعود تعرف ما تعنيه السياسة أو المجتمع أو الاقتصاد أو العلم، بل ولا يسألها أحد أسئلة من هذا النوع، والثقافة حين تؤثِر السلامة في خضم العواصف والقواصف حين تُلم بإنسانها وتأوي إلى ما تظنه توهماً أنه وظيفتها في ظل حرّاس الأوهام، تفقد ما تعتني به أي ثقافة حية، وما يعنيها عادة، أي الفعالية والشمولية والدور.

تغيير العادة سيكون إذاً بالتركيز على هذه المفاهيم الثلاثة الغائبة في جردة من يجرد، وحصاد من يحصد. فما الذي تعنيه الفعالية التي تفتقدها ثقافتنا العربية، الأدبية والفنية بالطبع، ما دام الهزال وصل حد عزل كل جوانب الحياة عنها حتى بانت كلاها، أي حتى مع تدمير الزرع والضرع الذي لا تقوم لثقافة قائمة من دونه، وحتى مع وصول الحال بها أن سامها كلُّ مفلس؟

في أبسط معانيها، تعني الفعالية أن وظيفة أي ثقافة هي تغيير الإدراك، رؤية النفس والعالم، ابتكار رؤيا لعالم جديد يولد، وكل هذه بالطبع روائز في أي تقييم لما هو أقوم، وليس لما هو أطعم.

إذا أخذنا بالفعالية معياراً ستستقيم الأمور، وتقف الثقافة على قدميها مجدّداً، أي سنعرف حجم الزيف الذي ألم بأوساط الثقافة والمثقفين، ونعرف كم هو حجم الوهم الذي ابتلع أعمار أجيال خدعتها أسماء وعناوين لم تنر طريقاً ولا سدّدتْ خطى، ولا فتحت أفقاً، ولا غيّرت إدراكاً.

ولا دليل أبسط من ظهور هذه الوجوه المعتمة بثياب مستعارة من ملابس أناس العصور الحجرية التي انقضّت حتى على براعم ما كان تنويراً وعقلانية في ظنّ الأجيال الماضية، ناهيك عن الانقضاض على أجمل قيم الماضي العربي وفنونه وآدابه ومنحوتاته وعمائره، حرقاً وتدميراً.

معنى هذا من الواجب السؤال عن مصير تلك التيارات الثقافية التنويرية، وآثار العقول النقدية، بل وعن تضحيات من دفعوا الضريبة من معاشهم ومعاش عائلاتهم وحياتهم أحياناً، في سبيل تشكيل مدارك واعية ومجتمعات محصّنة ضد التخلف والخرافة على الأقل. هل كانت فعلاً وتبدّدت، أم أنها من جانبها لم تكن نبتاً طبيعياً بل نبتاً مصطنعاً؟

المفهوم الثاني الخاص بالشمولية، جاء به روماني عاقل حين قال "أنا إنسانٌ لأن كلّ ما يعني الإنسان في أي مكان يعنيني، وكل ما يعنيه ليس غريباً عني". بهذا النوع من الشمولية ينفتح الإنسان على العالم من حوله، وتتحوّل ثقافته إلى أفق وليس إلى حظيرة أغنام أو زاروب عائلي.

ثقافة الأفق تعني في أبسط ما تعنيه أن يقرأ الصينيون أو الأوروبيون رواية كاتب عربي فيرون أنفسهم في شخصيات روايته. ويتكشف لهم وطن عربي تحت ضوء جديد لم يألفوه في ما ورثوا من قصص وأساطير الأزمنة الغابرة.

فهل يمكن القول، إن وطننا أصبح مألوفاً عبر ثقافته، عبر روائييه وفنانيه، في نظر العالم، أم ما زال مجهولاً تغطيه صور من استشرق وغزا ونهب من غزاة هذا الوطن؟ لا أعتقد أننا أصبحنا أكثر قرباً من العالم من حولنا إلا من زاوية صورتنا كغنيمة مباحة.
وحين نصل إلى المفهوم الثالث، مفهوم الدور، سنعرف السبب؛ سبب الفعالية المفقودة وسبب الغياب الحاضر الذي نمثله بجدارة.

حين يغيب دور الثقافة، في عالم الصراع القائم، عن وعي أصحابها، وحين يختصرها أصحاب الناقة المهزولة ومن يحسبون الورم شحماً، بالتطريب والمراثي والمدح والهجاء، ويتجادلون ويختلفون طويلاً حول ماهيتها، مع وجود تراث ثقافي إنساني هائل حسم مسألة الماهية منذ زمن طويل؛ تبتعد كثيراً عن دورها في صميم الصراعات الاجتماعية والصراع بين الدول، وتجهل أن هناك ما يسمى سياسة ثقافية، ويمكن أن تصبح أي شيء إلا أن تصبح ثقافة.

القليلون يتذكرون ما يُدعى التسلّح الثقافي، أي الحرب الثقافية التي جنّدت لها المخابرات الغربية واجهات ثقافية فتكت بالعقول، وأفسدت كما تفسد الآن كلمات مثل "الحرية" و"الديمقراطية" و"الثورة" وشغلت معظم النصف الثاني من القرن الماضي. وسيجد هؤلاء غريباً أن تضع مقالة مثل هذه عنواناً لها يذكّر بأصداء تلك الأيام وهي تضرب ثقافتنا اليوم، بل وتقلبها رأساً على عقب، فلا يعرف أصحابها حتى أنهم يدورون في متاهة، وقد أصبحوا الربابنة الوحيدين في العالم الذين فقدوا بوصلات الفعالية والشمولية والدور واحدة بعد أخرى.

المساهمون