التقيتُك مصادفةً أيّها العالم

التقيتُك مصادفةً أيّها العالم

05 يونيو 2019
(مقطع من لوحة "الرقصة" لـ مارك شاغال)
+ الخط -

تجربة

بهدوءٍ أُصافحُ النِّهاياتِ،
مثلَ حانوتيٍّ يربِّتُ على كتفِ جثة،
أيّها القلبُ النقيّ
يا بئريَ الآسنَ،
لا تحزن إن ارتوى منكَ الغرباء وقبلَ رحيلِهِم
رمَوْا وجوهَهُم فيكَ حصًى،
سيعطشونَ بعيداً عن مائك،
وحدكَ ستلمعُ في حلوقهم وقتَها،
مثلَ هاويةٍ بيضاءَ تعبرُ عينَ طائر.


■ ■ ■


كل شيء مكرّر

اليوم الذي يمضي
أضعه في البرّاد طعاماً للغد
أتعقّب خطّاً في مجرى وجهٍ جفّ
فأفهم عجز المرآة عن مداراته
أشد بالقوة ظلاً من الشارع أُلبِسُهُ ثيابي،
أنفض رمادَهُ وأُجلِسُهُ قبالتي
نخترع حبّاً على فمِ ركوة النحاس
تفلُ القهوةِ أمرغُ به وجهَ هذا الكون
كمن تلهو بتراب
والتراب والقهوة سمُّ الذاكرة،
تشمُّه لتنجو
من نتوءٍ في قلبِ طفلةٍ
يُرسلُها رجلٌ لتلعبَ مع إخوانها
ويقطفُ على عجل وردة
فتبتسمُ له امرأة
تحسبُ بكاءَ الوردةِ ندًى،
تحسبُهُ يحبُّها.


■ ■ ■


لا تقصص رؤياك

... وأذكرُ أنّني أثناءَ نزهةٍ معتادةٍ
في حياتيَ الموحشةِ
التقيتُكَ مصادفةً
أيّها العالم
قلبي تفاحةٌ مأكولةٌ وَضعتُها على خشَبةٍ
وأفلتُّها في نهرٍ
كلُّهُ غرقى
وأنتَ على الضفّة عجوزٌ
أشعث مصابٌ بالزهايمر
تعدُّ بعينيكَ فقاقيع الماءِ الخارجة من أفواهِهم
وَتضحك.


■ ■ ■


ربّ بيت

هدوءُ الرِّواق الطويل في البيتِ الفاخر
لا يحتملُ دبيبَ رجلِ عُصفور،
تمدُّ عصاً طويلة نحو شرفة الجيران
وَتُطعم جرواً مريضاً من علبة صدئة.
جروُ الجيران غداً حين يرِفّ قلبُ العصفورِ سَيَعُضُّك.
أنتَ الآن في صمتِك مريحٌ كَكنبةٍ منتفخة
وكلُّ الأرضِ تتسابق لتجلسَ عليك.
سيجارةٌ واحدة بعد وتحتقنُ حنجرتكَ بالمرض،
تُطَمئِنُك عبارة "التدخين يقتل"
على الأقل وجدتَ سبباً مقنعاً لتموت،
وأنت تفعلُ شيئاً تحبُّه.


■ ■ ■


داليدا

اليومَ أكتئب غداً،
أصنعُ من العقاقير النفسية
خُشْخَيشةً بيضاءَ لحُزني حين أقرِّر الانتحار
فَليَكُن مَوتي حرقاً
لن أتركَ للناس شيئاً يدفنونَه
ليَبكوا مرّتين فليُحرقوا قلبي،
عينيَّ ووبرَ جسمي الباقي فلتأكلْه النار وتشبعْ.
كلّما هبّ هواءٌ من الجنوب القريب
وتَطاير رمادي
تهتزُّ الخُشْخَيشةُ البيضاءُ وَيولدُ أقصى المدينة شاعر.


■ ■ ■


عقوق

بعد الكثير من المحاولات الفاشلة لنحيا
أريد لنفسي ميتةً مبتكرة
لا تشبه ميتات إخوتي الوادعين
سوف أظلُّ جالساً هنا أدخّن حدّ التفحُّم
أمدُّ ساقين طويلتين من فوق كذب هذا العالم
وأنتزع بقوة أخيليوس عينيّ أمي
أرميهما في المرحاض دون أن أفكر
ولو للحظة بأن الله سيغضب ويعاقبني
من يدري ربما ينضمُّ لنضحك سويّاً
حتى يصيبه عارض سعال ديكيّ
وتنتهي الدنيا وتفيض عينا أمّي بمياه الصرفِ الصحّي
إلى أن يقتنع وجهُ هذه المرأة الفاضلة الأصفر كبولي وبول إخوتي
المجعّد كقطعة لحم بائتة بأنّ الجنة التي وعدوها بها
لا تتطلّب صعودها إلى الله ولا حتى وجودنا.


■ ■ ■


فصام

وحيدةً أنتظر الليل لأخرجَ من بيتي
أمشي بخطى مسرعة
وأرتمي عند صخرة مجاورة
منذ فترة وأنا أواعد ظلاً
نلتقي كل يوم ونجلس فوق بعضنا
هو بارد مثل نصل سكين
ونصفي الرخو يسنده
أكلمه فيتناثر
تحتي ملح لا ينتهي
نُهرِق لساعة أو أقل دمعاً جافاً لا يُرى
همهمة خافتة تسمعها تحتنا الأرض
فتنبت زهراً برياً في غير موسمه
في يده شريطةٌ ملوّنة يطلقها نحوي
وبريح اندفاعها أتعثر
أعودُ أدراجي متظاهرةً بالثمالة على أي حال..
لا يهمّ
أندسّ في الفراش بكامل أناقتي
وكأنّ شيئاً لم يكُن
وكأنَّ أحداً لم يكُن
ليصدّق أنّني أواعد ظلّي.


* شاعرة من لبنان

المساهمون