العروق المفتوحة لإدواردو غاليانو

العروق المفتوحة لإدواردو غاليانو

14 ابريل 2015
+ الخط -

عنكبوت الوقت، أغلب الظن أن معظم قراء إدواردو غاليانو شعروا بهذه الحشرة تمشي فوق جلدهم وهم يقرؤون كتاباً للروائي الأوروغواني. حتى أن معظم عناوين كتبه تشير بشكل ما إلى الوقت؛ "أفواه الزمن" أو "أطفال الأيام" (البعض يفضل ترجمتها أبناء الأيام) "أصوات الوقت"، "أيام وليال من الحب والحرب"، "ذاكرة النار" وسواها.

"هذا يوم حزين"، هكذا وصف أحدهم رحيل غاليانو (1940-2015) أمس. حقاً إنه كذلك، وبالنسبة إلينا سيكون انقطاعه عن الكتابة أكثر ما في الأمر إيلاماً. موته لا بدّ وأن يجعلنا نتفقد جيوبنا بحثاً عن ذاكرتنا، إنه الكاتب الذي ظل يمرّر لنا شعوراً عميقاً بالذنب نحو "أنثروبولجيتنا" الخاصة، إن جاز التعبير، نحن سكان جنوب الكرة الأرضية المحكومين بالنسيان والحفر بحثاً عن ينابيع في أرض الآخرين. غاليانو من ذلك النوع من الكُتّاب الذين يؤلمونك ويذكرونك بنفسك وهو يقومون بالحفر فيها. مرة قال عن نفسه "أنا كاتب مهووس بالتذكر، تذكر ماضي أميركا وفوق كل شيء ماضي أميركا اللاتينية، الأرض الحميمة المحكومة بفقدان الذاكرة".

بدأ نسّاج الذكريات هذا بدأ حياته صحافياً مثلنا (ألا يعطي هذا الأمل لكثيرين من الطامحين في مهنة المتاعب). في مطلع الستينيات التحق بصحيفة "مارتشا" الأسبوعية والتي كان لها تأثير كبير في محيطها، وكان زملاؤه فيها ماريو بارغاس يوسا وماريو بنيديتي. اشتغل صاحب "مرايا" لدى عدّة جرائد بارزة، وعن الكتابة وعلاقتها بحرفية الصحافي يقول "كل أشكال الكتابة تكوّن الأدب. بما فيها الكتابة على الجدران. لقد ألفتُ كتباً لسنين عديدة، ولكنني مدرَّبٌ كصُحفي، وأنا مدموغٌ بهذه الصفة. أنا ممتن للصحافة لإيقاظي لرؤية حقائق العالم".

في الفترة نفسها التي بدأ فيها غاليانو العمل الصحافي، أصدر كتابه الأول بعنوان "الأيام التالية" (1962) ثم أتبعه بستة أعمال متلاحقة كان أبرزها "العروق المفتوحة لأميركا اللاتينية" (1971) الكتاب الذي سُجن غاليانو بسببه ثم أجبر على ترك بلاده، وقد مُنع الكتاب من الأورغواي وتشيلي وكذلك الأرجنتين التي نُفي إليها.

أربع سنوات وتسعين ليلة استغرق العمل على هذا الكتاب، أمّا السنوات فخصّصت لجمع المعلومات والقراءة، والتسعون ليلة فهي مدة الكتابة فعلياً. كان متوقعاً أن لا تقبل أي سلطة - فاسدة ومستفيدة من ظروف البلاد ومتسلقة عليها - بذيوع الكتاب وانتشاره، هو الذي تضمّن تأريخاً دقيقاً لـ "خمسة قرون من نهب قارة" وإفقارها في سبيل إثراء أميركا وأوروبا. كتب فيه غاليانو "إن قتل الإنسان بالفقر في أميركا اللاتينية هو سر. كل عام، ومن دون إحداث أي صوت، تتفجر ثلاثة قنابل هيروشيما فوق المجتمعات التي أصبحت معتادة على المعاناة وهي تكزّ أسنانها".

ظلّ غاليانو مقيماً في الأرجنتين حتى صدر الحكم عليه بالموت إثر وصول الديكتاتور فيدالا إلى الحكم، فهرب منها مغادراً أرضه اللاتينية الحبيبة إلى شمال الكرة الأرضية (1976)، حيث أقام في أسبانيا مع زوجته هيلينا.

نكاد نحن قراء غاليانو نعرف هيلينا (الزوجة الثالثة لغاليانو) بشكل حميم، إنها تلك المرأة التي تحضر هي وأحلامها الغريبة بقوة في كتابته. خصوصاً في "كتاب المعانقات"، الذي كانت فيه هيلينا تظهر كشبح رقيق ينام أو يسافر أو يحلم هنا أو هناك ويشاهد العالم بشفافية لا يراها سوى غاليانو، ويقوم بدوره بمشاركتنا أسرارها.

وفي العام 1985 تحققت إحدى أحلام هيلينا وغاليانو معاً بالعودة إلى الأوروغواي، إلى مونتفيدو تحديداً مسقط رأسه التي ظل فيها حتى وفاته اليوم بمرض سرطان الرئة، وقد اكتشف إصابته به في العام 2007.

نعرف غاليانو، نحن القراء بالعربية، من أعماله "كتاب المعانقات" و"أفواه الزمن" و"المرايا" و"الأغنية التي لنا"، يملك أكثر من أربعين مؤلفاً قد يكون أن هذه المترجمة إلى العربية من أقصرها، فهل ننتظر المزيد من عروق غاليانو منقولة إلى العربية!

المساهمون