انتظارات شوقي شمعون

انتظارات شوقي شمعون

06 نوفمبر 2014
"أزرق بعيد"، أكريليك على القماش (جزء من اللوحة)
+ الخط -

يقترح التشكيلي اللبناني شوقي شمعون، على زائري معرضه "سلام في الانتظار"، مفهوم الانتظار في بعد مختلف. المعرض المستمر في "غاليري مارك هاشم" في بيروت حتى نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر الحالي، يضم أعمال شمعون الأخيرة، التي تعكس تأملاته الشعرية في الطبيعة بوصفها أماكن حميمية في الذاكرة.

هكذا، يدعونا شمعون، عبر مشهديات متنوعة لجبال صنين الثلجية والمناظر الطبيعية الصحراوية، إلى دخول زمنه الخاص؛ زمن جميل "متخيل" خالٍ من العنف والحرب، لنقف، مع أشكاله البشرية المنمنمة، متأملين لون الثلج الأبيض ولون الرمال الذهبي في انتظار أبدي.

تشكّل هذه المجموعة امتداداً لموضوعه الأبرز الذي يشتغل عليه منذ تسعينيات القرن الماضي مستخدماً التقنيات والأدوات نفسها؛ إذ يغدو المنظر الطبيعي المتعدد الاحتمالات (الجبال الجرداء، الصحراء، البحيرة، المدينة) ذريعة "تشكيلية" ينقلنا عن طريقها من تصورات انطباعية إلى عوالم أسطورية.

ينسج شمعون (1942) عالمه الأسطوري من التشابك الناشئ عن الخطوط البسيطة وواضحة المعالم التي تكوّن مفردات المنظر الطبيعي الخاص لديه، كما في عمله "كم هو جميل أن تعيد الطفولة ابتكار السلام"، وعن خطوط عريضة تنتجها ضربات فرشاة كبيرة تنمّ عن سيطرة تقنية واضحة على فضاء اللوحة الواسع كلوحته "اللعب مع الأحرف".

ويبدو فضاء هذه اللوحة مختلفاً عن باقي المجموعة، حيث يستبدل مفردات "المنظر الطبيعي" بضربات عريضة من اللون الأسود الشفاف، وتحيط بتلك التشكيلات الاعتباطية الناتجة نقاط مضيئة حمراء وصفراء، وأحياناً زرقاء.

حضور عنصر "الإنسان" ضمن تلك التأليفات التجريدية، بوصفه منمنمة صغيرة تصطف في نسق محدد أسفل اللوحة، يجعلنا نفكر بضآلة تكويننا كبشر أمام حضور الطبيعة الطاغي. كأن الفنان يتآمر مع قدراته التقنية في تمثيل الطبيعة ليكشف عن هشاشتنا. توحي تلك الأرتال البشرية، من طريقة اصطفافها، بأنها في حالة تأمل جامدة تنتظر حدوث أمر مختلف قد ينقلها إلى حالة انتظار أخرى.

بدأت تلك الكائنات المتناهية في الصغر بالتسلل إلى عوالم شمعون نهاية التسعينيات، حين كان الأمر في البداية مجرد مفردات مكمّلةً تبدو أقرب، أحياناً، للموتيفات التزيينية، كما في عمل "العودة إلى البحيرة"، لتتحول تدريجياً مع الوقت إلى عناصر أساسية في العمل. هي أشبه بتنويعات إيقاعية أفقية تضفي على اللوحة نوعاً من السحرية كما أنها أصبحت بمثابة توقيع الفنان الشخصي، الذي كان يرسم، في طفولته، على جدران قريته البقاعية. مع الوقت، تعمقت رغبته في أن يصبح رساماً.

انتسب إلى "المعهد العالي للفنون الجميلة" في "الجامعة اللبنانية" ليدرس الفن. ورغم أن أعماله الأولى كانت واقعية، إذ رسم البورتريه والطبيعة الصامتة كتمارين أكاديمية، إلا أنها حملت إرهاصات حداثوية ستظهر في أعماله اللاحقة. سافر شمعون بعدها إلى الولايات المتحدة الأميركية متابعاً دراسته هناك، ليحصل على درجة الماجستير في الفنون الجميلة من "جامعة سيراكيوز" في نيويورك.


لم تحمل الأعمال الأولى التي أنجزها، بداية احترافه الفن، هوية واضحة، لكنها لم تخف، في الوقت نفسه، تأثيرات محددة من المدرسة التعبيرية التجريدية، خصوصاً طريقة Dripping عند الفنان الأميركي جاكسون بولوك، التي نرى آثارها أحياناً في أعمال متأخرة كمجموعة "باب لحديقتها" المنجزة منتصف التسعينيات.

يتوقف الفنان عن الرسم عام 1978 بعد حادثة اختطاف أخيه بداية الحرب اللبنانية. تركت تلك الحادثة أثراً كبيراً على الفنان وعائلته التي عاشت حالة من الانتظار المرير. لذلك، ليس مستغرباً أن يشكّل "الانتظار" موضوعاً محورياً في أعمال شمعون اللاحقة: "لا أريد لأحد أن يعيش آلامي. أخي لم يعد. لم نعثر على شيء عنه. ما زلنا ننتظره"، يعلق الفنان في إحدى مقابلاته، معلّلاً سبب توقفه عن الرسم.

عاد شمعون إلى ممارسة فنّه حين قدّمت له زوجته ليلى علبة من ألوان "الباستيل" وطلبت منه أن يرسم من جديد. هكذا، أنجز معرضاً فردياً مميزاً في لبنان يتمحور حول موضوعة المرأة. خطوط مكثفة وحرّة تتقاطع مع مفهوم التخطيط السريع؛ تشي برغبة متراكمة وحاجة ملحة إلى الرسم. رسم الفنان مجموعة عام 1985 مستخدماً ألوان "الباستيل"، بشكل أساسي، ومبرزاً عنصر المرأة، زوجته ليلى، كموضوعة جديدة قابلة للبحث والتطوير. لم يرسم الفنان المرأة كموضوع اجتماعي تقليدي وإنما بوصفها عنصراً تشكيلياً يؤسس مع العناصر التجريدية الموجودة في العمل لمرحلة جديدة.

ورغم اختلاف الموضوعات وتنوع التقنيات والأساليب الفنية في أعمال شمعون، تبقى الطبيعة، كمرجعية بصرية وكمحرّض لإنتاج تصورات تخييلية، الحامل الأساسي للوحاته. يقول: "أجد في الطبيعة، مصدر الأشياء، إلهاماً يغذّي أساليبي الجمالية الإبداعية الجديدة والأدوات اللازمة لتنفيذ أعمال جديدة".

يبدو الانتظار، كمشهد شائع في تاريخ البشرية، موضوعاً مغرياً لكل فنان. الانتظار بمعناه الوجودي هو ما يدفع شوقي شمعون للتورط أكثر في هذه الثيمة ساعياً من خلال اللوحة وتقنيات الرسم الغنية إلى تقديم رؤيته الخاصة عن الإنسان والوجود، جاعلاً من المنظر الطبيعي، غير التقليدي، حاملاً لتصوراته الخيالية.

المساهمون