المتحف مُؤرِّخاً للجريمة

المتحف مُؤرِّخاً للجريمة

19 مارس 2015
لوحة فسيفساء لمشهد صيد، متحف باردو/ تونس
+ الخط -

في سلسلة أفلام "ليلةٌ في المتحف"، يستفيق التاريخ بشكل كابوسي - في إطار كوميدي - على حارس ليلي مُهلوس. وفي أيامنا هذه، وضمن مسار معكوس، يقتحم الحاضرُ "الكابوسي" على المتحف سُكونَه، ويُلقي به عنوة في دوّامة العنف والإرهاب، لتسقط أوطان برمّتها في إطارٍ كابوسيٍّ إقليمي.

من متحف الموصل إلى متحف باردو في تونس العاصمة، يتحوّل ذلك المكان المرتّب بعناية إلى فضاء للجريمة، وهي التي تقتضي أن يُرتبها منفذوها بعناية كي تنجح. مرّةً أولى، جريمةٌ في حق ذاكرة البشرية، وثانيةٌ في حق الروح البشرية ذاتها. عملية التكرار هذه، وكأنها تشير إلى أن الجريمة الإرهابية تريد أن تتموقع في التاريخ، أو في المكان الذي يوثق فيه التاريخ، وهي على ما يبدو تتوّقع أن يتناولها محللوها من زاوية مكان وقوعها.

لطالما قيل عن المتطرّفين إنهم يريدون العودة بالمنطقة إلى قرون سحيقة، وها هم اليوم يدمّرون ذاكرة هذه القرون. يدمّرونها بالتهديم وبالتخويف، ويُسقطون القراءات المبسّطة جميعها. إنهم لا يريدون العودة، إنهم يحاولون فرض اتجاهٍ.

المتحف ليس الشارع ولا مخفر الشرطة ولا قاعات العروض الفنية. إنه مكان معزول عن حياة الناس، بعيد عن النقاش، متروك للمتخصّصين وللزيارات السياحية. ليس فضاءً تتواجه فيه التناقضات الاجتماعية، لا توجد فيه مشادة بين أساليب الحياة، ولا يُقحم نفسه على جدالات الحياة العامة. لكنه، ورغم عزلته، يوضع في قلب الحركة، فلا بدّ له أن يكون هو الآخر امتداداً لأزمة جذرية تطل برأسها على كل مكان تنعكس فوقه أضواء المصالح والسلطة.

المتحف، اليوم، مسرح لعملية تصفية حسابات مع الحاضر والتاريخ. فضاء ملغّم بالرموز، ممتلئ بالدلالات، بعضها يمدّنا بحبل للتأويل وفهم "العقل الإرهابي" وبعضها مُضلّل. إنه مكان يبدو عاطلاً من الحيوية، ولكنه كان قابلاً أن يتحوّل إلى مذبح، يضعه الإرهابيون في الخلفية ويتواصلون بلغة الإشارات. سكونُه يجعله صالحاً كي يتحدّثوا بصوت عال ويقوموا بتوجيه الرسائل في جميع الاتجاهات.

يستبطن هذا العقل الإرهابي "ليلةٌ في المتحف" معكوساً، يجعل من فيلم الخيال الهوليوودي واقعاً، وحيلته السينمائية هي أن يَقتحم المتحف بقوة السلاح والصورة وفي وضح النهار. عقلٌ يذكرنا بأن المتحف، في أصله، يؤرّخ للجرائم، الكبرى منها فقط، تلك الانتصارات العسكرية "العظيمة". المتحف، بطبعه، كان يقوم بتأبيد القتل، لكنه كان يخفي الدم فأساله إرهابيو اليوم في باردو.

هكذا يعدّل الإرهاب، بالقوة، مفهوم المتحف. يحطّم تماثيل العهد الآشوري في العراق، فيَطمِس إلى الأبد عبرة الزمن، ويقتل روّاد المتحف في باردو استهدافاً لمن يأتون لأخذ العبرة. لن يكون متحف باردو في المستقبل القريب إلا مزاراً وتذكاراً لحدث إرهابي، ولن ننظر إلى متحف الموصل في السنوات القادمة إلا كشاهد على تخريب داعش له.

تتغير لهجة التطرّف من حين لآخر، ووصوله إلى المتاحف يحمل نبرة دلالية عالية، يحمل محاولة لتكثيف إرادة الهدم في لعبة بصرية نفسية. لعبة مكشوفة على الأخطار والموت، لن يوقفها استجواب الجريمة في مكان وقوعها، وإنما في تتبعها في فضاءات ممكنة أخرى.

هكذا، بمنطقه اللاعقلاني أو العقلاني الخاص به، قادنا الإرهاب وموجّهوه إلى المتحف. وإن جرائمه لتسحب المتاحفَ إلى الظلمات، تغتال دورها، في ما يُشبه تصفية جسدية بعد أن عانت طويلاً من إهمال أهلها في هذه البلاد. كل شيء يعود بسرعة إلى الهدوء والصمت، هنا في المتحف، هذا المكان المحبّب لجرائم اليوم.

المساهمون