هي ذي القارّة التي عبرتها

هي ذي القارّة التي عبرتها

02 ديسمبر 2016
(الشاعرة مع مسوّدات قصائدها)
+ الخط -

العودة

هو ذا الشارع حيث وُلدتَ.
هو ذا المفتاح الذي أضعتَه في الثلج،
وهو ذا المعطف الذي ارتديتَه لكي تبحث عن ذلك المفتاح.
هو ذا الشكل الذي تبدو عليه السماء من الطائرةِ
صباحَ تغادر الوطن. هو ذا المكان الذي لم تتخيّل أنك ستغادره.
هي ذي الشطيرة التي أكلتَها على درجات الكنيسة،
الفُتات الذي ألقيتَ به للحمام. هو ذا غطاء الوسادة
لـمّا يزل مخطَّطاً بشَعرك. هو ذا الصيف.
هي ذي القارّة التي عبرتها،
الرسالة التي راحت خطأً مع الثياب إلى الغسيل،
سكين المطبخ التي تبقّعت بدمك وأنت، وحيداً، تفرم البصل.
هي ذي الدهشة حين التعرُّف إلى شخصية الصديق من سعاله
في الغرفة المجاورة. هو ذا، رغم استغراقك في النوم،
دبيب الفأر تحت خشب الأرضية والضوء
المنبعث من بين شقوقه، وهي ذي الظلال
على امتداد العمود الفقريّ للظهر الذي لا يكفّ عن الإدبار.
هو ذا ما أظنُّكَ عنيتَ قولَه.
هو ذا امرؤ يعزف مقطوعة لـ برامز في الطابق الأدنى،
كوبُ الماء الذي يهتزّ فوق البيانو، الماء المُراق.
هو ذا الغيظ، درس السياقة، السنة من عمرك؛
هو ذا موقف الحافلة، الشرشف، موجة الحرّ؛
هي ذي الألعاب النارية التي شاهدتَها
عن بُعْد، مكتومة الصوت مثل القرنفل.
هو ذا الحبل في يديك،
وهي ذي أصابعك، حامية ومتسلّخة
حولَه. ليس هو ذا الغفران. هو ذا
المحيط في صدفة. هو ذا المحيط.
هو ذا ما يلوحُ أن الأشياء قد آلتْ إليه.
هو ذا أنتَ حين تولي الظهرَ.
هو ذا أنتَ حين لا تعود.


***


الشبح

في المرة الأخيرة التي رأيته فيها
في شخصه القديم، سدّد قبضته
إلى حائط، تردّد في الشارع صدى
لحجر يتخلخل.
ومرة تجاوزتُه في الشارع،
كان قد أرسل لحيته، ولم يزل
متصلب العينين والكتفين، العظام
والعضلات منسجمة حين يسير.
رأيته في حافلة متجهة إلى غواتيمالا،
من خلال نافذة حانة في السلفادور،
متورِّم الشفتين وهو ينظف الأرض
في كنيسة نيكاراغوية.
أراه في كلّ مكان هنا، بل في كلّ الأمكنة،
هذا الرجل الذي لم أقع يوماً في حبّه،
أو لمستُه، أو عرفته، لكنني أميّزه
ما دمتُ
لا أراه.


***


تخمة

ثمة سوق هنا تبيع كلّ شيء:
كحل العيون، ثمار البابايا، حبات السبّحات، اللحوم النيئة،
النباتات في الأصص مع أقرانها
وقد حُزمتْ ضمن باقات.
لستُ متأكداً كيف يمكننا أن نتحمّل ذلك.

أتذكّر غروباً بدا وكأنه سيمتدّ لساعات عديدة،
وبقية جسدي يتكثّف في عينيّ، كأنما،
للمرة الأولى، أرقب ذلك من فوق السقف.

في جولة الحافلة عبر الجبال،
كان كلّ من صعدها في موقف ما
يحاول بإلحاح بيعَ شيء ما، وجلّ ما لديه كان البصل.

اشتغلتُ البارحة والأسى يعتصرني
كآثار أسنان على كتف، مضيتُ
إلى السوق في الصباح،
واشتريتُ سلّةً للخبز.

أظن أن هذا ما تنشده الذاكرة -
ليس الديمومة بحد ذاتها،
بل الآصرة،
بكل ديمومتها.

تجتمع المتبايناتُ.
ثم تأتي سلةٌ للخبز فقط.


***


محاولة أخرى لقول
شيء ما عن القدس

دفنه الجيران في الليل.
كان الجنود يراقبون
من الطريق الأدنى.
حمل الجنودُ الكشافاتِ الضوئيةَ.
كان ابنهم.
أنت وأنا، اللذان لا ابنَ لهما،
مشينا عبر الأضواء
في طريقنا إلى البيت.


***


نعم

يتلخّص التكتيك الجديد بـ "نعم".
ثمة اختبار لمعرفة كم يطولُ
أمدُ التكتيك.
على سبيل المثال، نعم،
للشتاء في مكان حارّ.
نعم للكوابيس
والألعاب النارية عند الفجر.
نعم لشارات التوقف،
الدخان، الجبال، الضباب، وكنّاسي
الطرقات بمكانسهم
التي لم تزل تعيد إلى الأذهان شكل الأشجار.
نعم للأعمى وهو يعزف
على البانجو، نعم لآلات البانجو
وللعمى. نعم
لصراصير الليل، ما يؤكَل منها منكَّهاً بالفلفل
أو ما يُصغى إليه في الليل.
نعم للقتال
وطريقة تقاذف الزجاجات
في الاستعراض.
نعم للتعرّق.
للرجال الذين سألوا
من أيّ شطر من إسبانيا أنا:
ولِمَ لا، لذلك نعم.
نعم للبنت التي تفقد كلَّ شَعرها.
للدم، لوابلِ البَرَدِ،
للجرو يعلِّمُ الضوءَ على الأرضية
كيف يراوغ، أقول
نعم ونعم ونعم.
انظر، أقول نعم، توقفْ، أكرر نعم، نعم
للأفول السريع لهذا النهار؛
لشطائر الذرة المكسيكية، للترجمة،
لِرجال الشرطة وهم يلعبون الكريكيت في
ساحة الكنيسة، نعم.
نعم للألم، أو على الأقلّ
لما انتُزعَ من البئر
وحُمِلَ في الدلو إلى البيت.
نعم للــ "لا
لا يكفي أبداً".
نعم لـِ سوف أشعرُ بالفقد.
نعم للينبوع، للسمكةِ اللامرئية التي تعود للطفل
ذي السنوات السّتِّ -
للكلمات، وللقبضات،
وللقبلات عند الباب،
لـ ماذا تفعل هنا
بحقّ الجحيم -
لـ الجحيم
و لـ أنت
و لـ هنا
التي اقترنت بـ نعم.


***


تماس

أُبقي ذكرياتي قريبةً مني
كجِلد كفّي،
تحترقُ مع احتراقي.

تنسلُّ رؤوس أصابعي
في غشاوةِ
لهب الشمعة

لأرى إن كان سيخبو
أو ببساطة
ينكمش، أو يتردد، أو يعود.


***


تقرير

تبدّلتْ درجات الحرارة مع تقلُّب الفصول،
لكن لا شيء آخر يتبدّل.

دخّنتُ وشعرتُ بالغثيان.
لم أدخّن وشعرتُ بالغثيان.

قطّعتُ البصلَ بسكين مثلَّمة.
أرقتُ الملح في المجلى.

تقرّحت الصحراء.
تقرّحت الغابة.

أحببتُ رجلاً دون أن يدري كم حجم هذا الحب.
مسحتُ شعره بيدي كلّما مشيتُ باتجاه المطبخ.

اشتريتُ حذاء جعلني أسير
وكأنني سأحظى بشيء لقاء ذلك.

ما أعنيه
مصدَرُه الطريق.

اشتريتُ نعناعاً بلغة أخرى.
أُصبتُ بالخرس بلغة أخرى.

أحدثتُ حفرةً في تنورتي
على قضبان المدفأة الحامية التي كنا نائمَين لصْقَها.

أهملتُ الصحون لكنني سوّيتُ الفراش.
أخذتُ حماماً في العتم.

مهجوسةً تأمّلتُها أزواجاً أزواجاً:
البصل الميت، القشر الملتمع،

الشمس تكسو نفسها على الأرض
حيث تركتُها.

الكثير من الناس دسّوا العطايا في يديّ.
أيدٍ كثيرة لمستْ الحاجة إلى التلكؤ.

أبديتُ الاعتذار.
قد عنيتُ ذلك.


* ولدت Robin Myers في نيويورك عام 1987، لكن الأقدار سرعان ما أخذتها إلى القارة اللاتينية، مقيمة في المكسيك ومترجمة لمجموعة من شعراء أميركا اللاتينية المعاصرين إلى الإنكليزية. كما عاشت بين الفلسطينيين في القدس المحتلة، وهو ما يفسر ذلك الحضور الشفّاف لفلسطين في شعرها. يبدو مسار الشاعرة الأميركية وكأنه على خط تماس بين جغرافيات سياسية ساخنة وحياة يومية تفيض بالشعر.


** ترجمة عن الإنكليزية: أحمد م. أحمد

المساهمون