كيليطو الذي قرأ باكراً

كيليطو الذي قرأ باكراً

29 نوفمبر 2018
من رسومات الواسطي (القرن الثالث عشر ميلادي)
+ الخط -

"اعمَلْ على نحو يجعلك فريداً من نوعك". هذه العبارة هي، على ما أتصوّر، المدخل المناسب للحديث عن عبد الفتاح كيليطو؛ خصوصاً أنه يرى أنها عبارة ينبغي أن تكون شعاراً لكل كاتب. كيليطو؛ القامة الثقافية العربية الذي شكّلَت كتبه ودراساته مادة غنية لمقالات وكتب وأبحاث ورسائلَ جامعية، إنْ باللغة العربية أو ترجمات أعماله إلى لغات أخرى كالإنكليزية والألمانية والإسبانية والإيطالية، وبالطبع الفرنسية التي كتب بها بعض أعماله.

في سيرته الأدبية تتجاور الكتابة والقراءة كتوأم سيامي. منذ طفولته - وهو المولود عام 1945 - تعلّم كيف يقرأ، حتى إنه ليمكن القول إن عبارة تودوروف "منذ صغري كنت بين الكتب" تنطبق عليه. في لحظة متميّزة وغير متوقَّعة من عمره المبكر فتح كتاباً وكأنه يلعب، فوجد نفسه يقرأه، ويسترسل في تتبّع صفحاته إلى النهاية.

بدأتْ حينئذ مرحلة جديدة في حياته، تخلّلها البحث عن الكتب والعثور عليها والتجاوب معها. وإذا به يُخصّص وقته كلّه للأدب، فترافقه الكتب منذ صغره ولا يتصوّر الوجود بدونها. يتواطأ العالم كلّه لتحقيق هذه الغاية بما في ذلك اسمه (كيليطو) الذي نبّهنا أحد قرّائه الأذكياء أن تقطيعه استناداً إلى اللغة الفرنسية يُشكِّل الجملة التالية: "qui lit Tôt" التي تعني (الذي يقرأ باكراً).

قرأ كيليطو باكراً إذن، ولم تكن كتابتُه بمختلف تجلّياتها إلا تعبيراً عن امتنانه لما قرأ. يكتب ليتحدّث عن أعمال تأثّر بها. إن "الرغبة في الكتابة تأتي من المتعة المستمدّة من القراءة" كما يقول، لذا فقد كان للكُتّاب القارئين - على قلّتهم - حظوةٌ كبيرة لديه، أولئك الذين يشبّهونه في كون ما يدفعهم أساسا للكتابة، امتنانُهم للأعمال التي انبهروا بها. من هنا نفسّر الحضور الكبير للجاحظ وبورخيس في أعماله واهتماماته. لقد "كانا قارئَين كبيرَين، يحبّان التكلُّم عن قراءاتهما. موضوعهما المفضل: استحضار كتب والاستشهاد بها.

ليس هذان العَلَمَيْن الثقافيَّيْن سوى عيّنة من أسماء أخرى كثيرة في التراث الأدبي العربي، وفي الأدب الأوروبي الحديث، تتزاحم في كتب كيليطو، تحاوره ويحاورها، تمتزج أصواتها بصوته، تخلع أقنعتها وتقدّم نفسها للقارئ كما لم تقدّمها من قبل: الحريري والهمذاني (اللذان كانا موضوع رسالة الدكتوراه التي تحصّل عليها من جامعة السوربون عام 1982 حول موضوع السرد والأنساق الثقافية في مقاماتهما)، المعرّي (الذي خصّه بكتاب "متاهات القول")، ابن رشد (الذي اعتبره جسراً بين الثقافة الإسلامية والغربية، رغم خطئه الكبير في تبنّي ترجمة تراجيديا اليونان وكوميدياها إلى المديح والهجاء، ما حرم ثقافتنا الإسلامية من فن المسرح)، وابن بطوطة (الذي تحدّثَ عن نزوعه للسفر وحلَّل الأسباب التي دفعته إلى ذلك)، ودانتي (الذي نسب له الفضل في عودة العرب لواحد من كتبهم التراثية الهامّة؛ "رسالة الغفران")، وابن خلدون، وابن طفيل، وابن المقفّع، وفلوبير، ورولان بارت، وسيرفانتيس، وعشرات غيرهم، استطاع كيليطو بكثير من التواضع، وبشيء من الحَياء والخَفَر، الاقتراب منهم، والحفر في مؤلّفاتهم بتمهّل وروية، ليعيد اكتشافهم وتقديمهم لنا في ثوب جديد، من خلال مؤلّفاته العديدة التي جمعتْها مؤخّراً أعماله الكاملة الصادرة عن "دار توبقال" عام 2015 في خمسة أجزاء (جدل اللغات، الماضي حاضراً، جذور السرد، حمّالو الحكاية، مرايا)..

وهذه العناوين الخمسة تتضمّن في طيّاتها العديد من الإصدارات التي تناولت مواضيع تمحورتْ حول اللغة والهوية والاغتراب والذات والترجمة مثل: "الأدب والغرابة: دراسات بنيوية في الأدب العربي"، و"الأدب والارتياب"، و"لسان آدم"، و"حصان نيتشه"، و"العين والإبرة: دراسة في ألف ليلة وليلة"، "أبو العلاء المعرّي: أو متاهات القول" و"الكتابة والتناسخ"، و"أتكلم جميع اللغات لكن بالعربية"، وغيرها من الأعمال الفكرية والفلسفية والروائية التي نَشرَت غالبها "دار توبقال" المغربية.

تساءل الناقد المغربي مرّةً: "ما الذي يحدث عندما أفتح كتاباً: هل أقوم أنا بقراءته، أم يقوم هو بقراءتي؟". من هذا التماهي بين القارئ والمقروء، خرجت لنا أعمالُ كيليطو المتعدّدة التي يصعب تصنيفها باطمئنان.

تبدو كتبه – على حد وصف أحد محاوِريه في كتاب "مسار" الصادر عن "دار توبقال"، وهو الكتاب الذي جمع فيه كيليطو الحوارات التي أُجريت معه طوال مسيرته العلمية، مترجمةً جميعها إلى اللغة العربية - وكأنها مرايا متقابلة. "ففي الوقت الذي نقرأ فيه نصوصاً نقدية تحليلية، نجد أنفسنا أمام قصص، وفي الوقت الذي نقرأ قصصاً وحكايات، نجد أنفسنا بصدد قضايا نقدية ونظرية تتعلّق بأسئلة الكتابة وهي في طور التشكُّل".

إنه، رغم خلفيته الأكاديمية وتشبّعه بالنظريات النقدية الغربية، لا يخاطب القارئ المختص، بل القارئ العام. لذا يسعى لعرض فكرته بوضوح تام، ويحاول ما استطاع ألّا تكون في دراساته فكرة مبهمة أو جملة معقّدة، كما أنه يشرح في الهوامش الكلمات التي يظنّها صعبة حتى لا يتجشّم قارئه عناء الرجوع للقواميس، بل إنه يُشركه في التحليل الذي يقوم به، ويعقد معه حواراً بين الفينة والأخرى بحيث يشعر بأنه معنيٌّ مباشرة بما يقرأ.

هل كان كيليطو يفعل هذا من فرط حبّه لقارئه؟ أم تُراه يعتبر هذا القارئ عدوّاً تنبغي معاملته بحذر كما نصح الجاحظُ في "الحيوان" عندما قال: "وينبغي لمن كتب كتاباً ألّا يكتبه إلّا على أن الناس كلّهم له أعداء"، أكان كيليطو يعرف – وكما كتب هو نفسه في "الأدب والارتياب" - "أنه محل ريبة لمجرّد أنه يكتب، فكأنه مقترف لذنب يجب التكفير عنه، ولذلك تراه يتودّد إلى القرّاء ويفاوضهم سعياً منه إلى استمالتهم وإضعاف شوكتهم وإبطال كراهيتهم؟

على أية حال؛ كان كيليطو ولا يزال في نظر قرّائه أديباً وناقداً ومفكّراً، أمّا هو، فقد كان دوماً مقتنعاً أنه أديب وفقط، وحتّى عندما يكتب النقد يعتبره أدباً وليس نقداً بالمعنى المدرسي أو الأكاديمي، وهو الذي عمل أستاذاً في كلية الآداب في "جامعة محمد الخامس"، وأستاذاً زائراً في صروح تعليمية مهمّة حول العالم؛ مثل: "جامعة بوردو"، و"السوربون الجديدة"، و"الكوليج دو فرانس"، و"جامعة برينستون"، و"جامعة هارفارد"، إضافة إلى محاضراته العديدة حول العالم.

من المفارقات في سيرته المهنية أنه، ورغم كونه مدرّساً للأدب الفرنسي، إلّا أن ما كتبه عنه ليس سوى النزر اليسير إذا ما قارنّاه بتكريسه جلّ عنايته وخبرته بالمدارس النقدية الأوروبية لدراسة التراث الأدبي العربي. عندما سُئل عن ذلك، قال إنه في الستينيات كانت أحاديث تدور، وإنْ بغير وضوح، حول صراع الثقافات، وحول الهويّة والوعي الشقي، ولذا قرّر الانشغال بالأدب العربي، وتحديداً الأدب الكلاسيكي، لأنه كان يعتقد أن دراسة المؤلّفين العرب الكبار ستمنحه مفتاح "هويتنا".

تُرى، هل وجد المفتاحَ بعد هذا العمر الطويل، أم أنه يئس من العثور عليه؟ وما دمتُ ذكرتُ اليأس، فعليَّ أن أذكّر أن الكتابة لديه تبدأ بهذه الخصلة. يقول عن ذلك: "نبدأ باليأس. نقرأ كتاباً ونشعر بأننا نرغب في الكتابة عنه. ثم لا نجد ما نقول ونيأس. في لحظة ما نجد صورة أو تستوقفنا كلمة، فنخطّها، ونرسم تلك الصورة، وهكذا تتجمّع الكلمات وتتحاور الصور. المهمّ ألّا يستمرّ اليأس".

ليست الكتابة لدى كيليطو، إذن، إلّا نوعاً من اللعب؛ لعبٌ بالكلمات والصور والذاكرة. وإذا ما أردنا اختزال رؤيته للكتابة فيمكننا الاستعانة بصورة للشاعر الفرنسي بودلير ما فتئ كيليطو ينفعل ويتأثر بها وهي: "قلبي وقد غدا عارياً". هذه الصورة ربّما هي الكتابة – يؤكّد كيليطو، ويضيف بتواضعه الجم: "يمكن اعتبار كتبي مسودّات لكتاب لم يُنجزْ بعد. أنا أوّل من يعرف ما فيها من نقص"، بل إنه يقول في موضع آخر: "أجد تحفّظاً أن أعتبر نفسي كاتباً".

كيف إذن استطاع أن يأسر قرّاءه من المحيط إلى الخليج، ويحوّل النص النقدي الذي نعرف أنه في الأغلب الأعم ثقيل ومنفّر، إلى نصّ رائق وممتع وبالغ السلاسة. السرّ نجده في قوله: "كلُّ ما في الأمر أني أحتفظ عند كتابتي بتصوُّر التلميذ الذي يودّ تحرير موضوع إنشائي على نحو جيد، ليثنيَ الأستاذ عليه، ويطلبَ منه أن يقرأه أمام زملائه"، كما نجده أيضاً في إيمانه بأن "إحدى مهام الكاتب هي أن يتبنّى نبرة ويحتفظ بها ويجعل القارئ يتقبّلها".


* كاتب من عُمان

المساهمون