لوركا والفلامنكو: الأغنية التي هي صرخة

لوركا والفلامنكو: الأغنية التي هي صرخة

26 نوفمبر 2018
(من مسرحية "يرما" التي كتبها لوركا، تصوير: بيبي فرانكو)
+ الخط -

ترك الشاعر الإسباني فيديريكو غارثيا لوركا (1898 - 1936) إسهامات في أدب بلاده خاصة، والأدب العالمي بشكل عام، لكن ماذا عن أثره في الفنون الأخرى، ومنها فن الفلامنكو؟

بعد انقضاء أكثر من ثمانين سنة على اختفائه المأساوي، هناك من يحاول أن يقيّم مسار الشاعر في علاقته بالفلامنكو باعتباره شاعراً ارتبطت كتابته بالغناء. هذا الارتباط يبدأ أثره منذ الطفولة، حيث قال لوركا في إحدى المقابلات معه: "قضيت طفولتي في تعلّم الأدب والموسيقى مع والدتي".

وكان الباحث ألفريديو أريبولا، قد كتب في مجلّة "ريفيستا دي فلامنكولوخيا" التي تُعنى بالدراسات حول فن الفلامنكو: "من الضروري معرفة البيئة اللوركوية لالتقاط فكر الشاعر عن الفلامنكو، والذي لا يمكن أبداً اعتباره موضوعاً خفيفاً في إنتاجه الفني".

ويضيف: "إن الفلامنكو، استناداً إلى شهادات شفوية، كان حاضنة أولى، ولم ينازعه الشك أبداً في عظمته التاريخية والاجتماعية والأدبية والموسيقية". في هذه البيئة تعرّف على ظاهرة "الكانطي خوندو" أي قصائد الغناء العميق، ومنها استلهم ديوانه الشهير "قصيدة الغناء العميق".

أمّا المحطة الثانية لهذه العلاقة، فكانت بعد 1915، حيث بدأ يدرس الفلسفة والآداب، ثم القانون، في جامعة غرناطة. وانضم إلى "مجموعة الرنكونسيُّو"، حيث التقى الفنان والمؤلف الموسيقي مانويل دي فايا. وبين 1916 و1917، قام بسلسلة من الرحلات عبر إسبانيا مع زملائه في الدراسة، وتعرّف شخصياً إلى الشاعر أنطونيو ماشادو. وفي 1919، واصل دراسته في إقامة الطلاب بمدريد، حيث اجتمع مع جيل فنّي متميز: لويس بونويل، ورافائيل ألبيرتي، وسلفادور دالي.. وفي 1920، عاد إلى غرناطة.

ويشير أحد كتّاب سيرته، كريستوفر ماورير، أن لوركا في هذه الفترة اهتم بدراسة الفولكلور، من جوانب عدة: مسرح العرائس، الكانطي خوندو، والأغنية الشعبية، أي من دوائر قريبة من الفلامنكو.

في 1922، دُعي لوركا إلى مسابقة للكانطي خوندو نظمتها بلدية غرناطة، مع كل من مانويل دي فايا وأغناسيو زولواغا وميغيل ثيرون. يشير إلى ذلك الكاتب يان جبسون في عمله "فيديريكو غارثيا لوركا من فوينطي باكيروس إلى نيويورك"، مؤكّداً أن لوركا ودي فايا كانا يحضران بشكل متواتر أمسيات المسامرة برياض ألونسو كانو دي فرناندو بيلشيث، وكثيراً ما كان يُناقش فيها مواضيع حول الكانطي خوندو. كان فايا في البداية قلقاً من التوظيف التجاري للفولكلور، مثل تأسيس مقاهٍ للغناء أو مسابقات الكانطي خوندو. ولم يتجاوز دي فايا التردد الأولي إلا من خلال الحماس الشبابي للوركا، وثيرون أيضاً.

عبّر لوركا عن افتتانه بالكانطي خوندو أيضاً في العديد من المحاضرات التي ألقاها بدءاً من سنة 1931 في إشبيلية، أو في سانتياغو دي كومبوستيلا أو سلمنكة. يقول يان جبسون عن ذلك: "في 12 شباط/ فبراير 1922، قام لوركا بأول قراءة لمحاضرته "الكانطي خوندو، الغناء الأندلسي البدائي" في المركز الفني بغرناطة. في تلك المحاضرة، اعترف بما هو مدين به لمانويل دي فايا في ما يتعلق بالمعرفة والتوثيق لأصل الجنس الفنّي وتطوّره. إن لدى لوركا قناعة راسخة بأن الكانطي خوندو وصل إلى "شكله النهائي" من خلال العالم الغجري، الذي كان على اتصال به منذ طفولته. الأساسيُّ هو العمق الذي يرجع إلى الماضي البعيد؛ الأغنية التي هي صرخة أكثر منها حركة".

كان ارتباط لوركا بفن الفلامنكو، كما تقول مجلة "فلامنكولوخيا"، وخاصة بالكانطي خوندو، مثل نداء أثار انتباه مثقّفي عصره. كان بذلك مع أصدقائه من أوائل المطالبين بالحفاظ على موسيقى وغناء الشعب الأندلسي، بوصفها "أغنى موسيقى أهلية في أوروبا" كما كانوا يعتبرونها.

لكن، هل كان لوركا شاعر فلامنكو؟ هذا السؤال طرحه خوان دي لا بلاتا في المجلة ذاتها. وقد كان جوابه كالآتي: "لا، لقد كان أندلسياً كامل الأندلسية، مليئاً بالانسجام والتناغم وبالأصداء القديمة (...) في ديوان "قصيدة الغناء العميق"، لا توجد سمات ورواسم فلامنكية (...) لكن ثمة أندلس من بكاء تسير حافية في أشعاره".

هكذا كان لوركا أقرب إلى الأندلس منه إلى إسبانيا كلها، وإلى الكانطي خوندو منه إلى الفلامنكو برمّته. في محاضرة له خلال افتتاح مسابقة عام 1922، أطلق لوركا صرخة الدفاع، "من أجل أغانٍ جد خالصة وجد صادقة".

بغيرة المُحبِّ، قال: "أيها السادة، إن الكانطي خوندو، سواءً من حيث اللحن مثلما من حيث القصائد، هو أحد أقوى الإبداعات الفنية الشعبية في العالم، وبين أيديكم أن تحافظوا عليه وأن تمنحوه المعنى لتشريف الأندلس وشعبها". وفي عام 1931، عندما تحدّث عن هندسة الكانطي خوندو، قال إنه "يقترب من تغريد الطيور؛ إنه بسيط رغم المتانة التي يمثلها قِدمه وأَسلبتُه. ولذلك فهو عيّنة نادرة من أقدم أشكال الغناء في أوروبا".

في كتاب "غارسيا لوركا والفلامنكو"، يقول الشاعر الإسباني فيليكس غراندي: "رغم أن ديوان "قصيدة الغناء العميق" في حد ذاته مدهش، إلا أننا نعرف أن فيديريكو لم يكن بأي حال من الأحوال متخصصاً في تاريخ هذه الموسيقى".

يشير غراندي أن لوركا حين وضع هذا العمل لم يكن لديه معرفة جيّدة بالموسيقى، بل كان ينطلق من حبها لا غير. يؤكّد بأنه "لم يكن يعرف شيئاً عن تاريخ الفلامنكو، كما كان يعرف ذلك مانويل دي فايا، أو أفضل المغنين وعازفي القيثار في ذلك الزمن. بل ومن الممكن حتى أن نفكر في أن محبّي الفلامنكو المعاصرين للشاعر لديهم معرفة أكثر دقة بأسرار الغناء من تلك التي لدى فيديريكو. ومع ذلك، فإن هذا الفتى، وهو قريب من المراهقة تقريباً، كتب ألمع وأعمق ملامح هذه الموسيقى الرائعة".

ويواصل فيليكس غراندي بالقول إن لوركا "استمع باهتمام إلى عمّال المناجم، وإلى أصوات الرومانس الشعبي وأصوات الرومانس المهذّب، ودمجهما. وبالطبع، أضاف في الآن ذاته إلى المزيج شيئاً من شخصيته القلقة والجامعة، مع ما تكنّه من رحمة وعطف على الكائنات الأكثر اضطهاداً في إسبانيا المعاصرة: الغجر"، ويختم بالقول: "إن المفاجآت التي تأتينا من هذا الكتاب غدت بالفعل جزءاً من تقاليدنا ومن فرحنا كقرّاء".

المساهمون