إلياس كانيتي.. سادية الكتابة

إلياس كانيتي.. سادية الكتابة

19 سبتمبر 2015
كانيتي في مكتبته
+ الخط -

ترتدي تيريز شبه الأميّة القفازات قبل أن تمسك الكتاب، تضعه على وسادة عند مطالعته، تعتني بالمكتبة عناية خاصّة، تأخذ وقتها في تأمّلها ومسحها. تتمكّن الخادمة الخمسينية العذراء، بتصرّفات كهذه، من إغواء المثقّف غريب الأطوار بيتر كاين، بطل رواية "الإعدام حرقاً"، فيتزوّجها.

كاين، كاره البشر الذي يأنف أي تواصل جسدي، يفكر أنها المرأة المناسبة للعناية بمكتبته الفريدة، أضخم مكتبة خاصّة في فيينا. لكن الخادمة/ السيدة تبدأ بالتوسّع، فتقتطع مساحة من المكتبة لتؤثّث مكاناً خاصاً بها، وشيئاً فشيئاً تستولي على حياة المثقّف وتلقي به إلى القاع النفسي والاجتماعي، إذ ينتهي به الأمر إلى الجنون وحرق مكتبته المادية، بعد أن ابتكر مكتبة وهمية في رأسه لا يصل إليها بشر.

ظُلمت رواية "الإعدام حرقاً" للكاتب البلغاري - الألماني إلياس كانيتي (1905 - 1994) مرّتين: في الأولى، حين نُسي أنها سابقة لزمانها في تاريخ السرد المكتوب بالألمانية، والثانية، حين تمّت قراءتها عالمياً - بعد ثلاثين عاماً من صدورها - على وقع شهرة كتاب آخر لمؤلّفها، وكان كتاباً غير أدبي بعنوان "حشود وسلطة".

في الحالة الأولى، اعتُبرت الرواية التي كُتبت مطلع ثلاثينيات القرن العشرين أنها تنتمي إلى أدب ما بعد الحرب، وعوملت نقدياً في سياق روايات أخرى ظهرت بعد 1947، مثل تلك التي أصدرها غونتر غراس وهاينريش بول. وبهذا الخطأ النقدي التاريخي، حُرم كانيتي من أن توضع روايته في مكانتها الأدبية، وفقاً للناقد ويليام كولينز وُدنهاوم، بوصفها عملاً شقّ طريقاً غير مطروق في الكتابة بالألمانية (شبُهت مكانتها فيما بعد بـ "يوليسيس" لجويس).

أما الظلم الثاني الذي تعرّضت له "الإعدام حرقاً"، فكان حين لم تُنقل إلى لغات أساسية أخرى كالإنجليزية والفرنسية، ولم يلتفت إليها لا عامة القراء ولا نخبهم في أوروبا، إلا بعد صدور كتابه "حشود وسلطة" سنة 1960.

في وثائقي عن الكاتب كانيتي، تظهر مكتبته الضخمة خلفه كما لو كانت مكتبة عامة، ثمة قسم للكتب الألمانية، آخر للفرنسية، وثالث للبلغارية ورابع للإسبانية، هناك صف طويل من أقلام الرصاص المبرية مرتبة بحسب أطوالها. لقد تربّى صاحب "وعي الكلمات" في محيط يتحدّث ست لغات على الأقل.

هو الآخر شخصية انعزالية مثل بطل روايته، أحياناً كان يظل زائروه يدقّون بابه حتى يملّوا ويسمع وقع أقدامهم تبتعد فيتنفّس الصعداء. أحياناً، كان يقلد صوت طاهية صينية ترد على الهاتف وتدعي أنها لا تفهم شيئاً، أحياناً أخرى كان يحاكي سيدة أرستقراطية إنجليزية تقول إنه ليس موجوداً. كانيتي بارع جداً في الأصوات، كان يقرأ مسرحياته في جلسات علنية (بعض منها على يوتيوب)، حتى من لا يفهم الألمانية يجد متعة في الإصغاء إليه وهو يقلد الأصوات ويؤدي الشخصيات.

يكاد الجميع أن يتّفق على أن كانيتي، الحائز على نوبل 1981، كاتب متغطرس وبغيض، الأمر ليس محض شهادات شخصية، بل إن كتابته تقطر ازدراءً للآخرين، العالم بالنسبة إليه موضع احتقار، والفرد فيه ليس إلا شمشون المعمي والمحطّم أمام الواقع.

تظهر خصاله هذه جلية في كتابه "حفلة في بليتز" الجزء الرابع من سيرته، الذي أُضيف إلى الأجزاء الأخرى بعد وفاته، وكان قد طلب في وصيّته ألا يُنشر هذا الكتاب إلا بعد وفاته بثلاثين عاماً، لكن ابنته تجاهلت الوصية ولم تنتظر حتى 2024، بل نشرته في 2005. هنا، يستعيد حياته في بريطانيا (1939 – 1971) بهجاء للغطرسة الإنجليزية التي يُسهب في تحليلها، ويضرب أمثلة بكراهيته لإليوت وحطّه من عشيقته إيريس مردوخ.

ليس من قبيل المبالغة الزعم أن كانيتي أرسى نوعاً من أدب النميمة، عنّف من خلاله الآخرين ومارس القسوة بحس فكاهي شديد اللهجة. يقول عن مردوخ مثلاً: "استلقت بلا مشاعر، بلا حراك، بالكاد لاحظتُ أنني دخلتها، ولم أشعر كذلك أنها انتبهت. ربما كنت شعرت بشيء لو أنها تحرّكت قليلاً، كأنها تستجيب".

لا يخجل كانيتي من قوله إنه كان يستعمل مردوخ كمستمعة، يقول إنه كان يحب الكلام عن نفسه، مدركاً أنها بلا موهبة وأنها تستغل كل ما يقول لتفصّل منه حكايات وشخصيات تعمّر بها رواياتها، بالنسبة إليه لقد كانت عاجزة من دونه. الأمر ليس بعيداً تماماً عن الصحة، فحتى زوجها وهو يدافع عنها بعد الاستهزاء المرير الذي تعرّضت له في مذكرات عشيقها، يؤكد إنه حبّ حياتها و"السادي" الذي ترك أثراً كبيراً على أدبها.

كانيتي لن يكون أبداً شخصية محبوبة من النسويات، وعلى الأرجح أن الكره متبادل بينهما، وأنه مرتبط بعلاقته المركّبة والجوهرية بوالدته، والتي تتّضح مع قراءة الجزء الأول من سيرته "نجاة اللسان" أو "اللسان الناجي". العلاقة مع الأم مرتبطة بالعلاقة مع الألمانية، والعنف الذي تعرّض له كانيتي على يد والدته لكي يتعلّمها. شهور من التقريع والتحقير والاستهزاء (خصال ورثها عن والدته على ما يبدو) على أقل خطأ فيها. كانت والدته المثقّفة الخطرة تريده ألمانياً بطلاقة، ولم تكن ترضى مهما كان يتطوّر. كانت تختار له الكتب التي يقرؤها وتمنع عنه كتباً أخرى رغم أنها تحبها، وكأنها بذلك تخيط عقله على هواها.

ظهر أثر الأم وأهمية القرب منها والبعد عنها في "لعبة النظرات"، والتي يوثّق فيها للفترة الممتدّة من 1924 حتى 1938، يعلن كانيتي أن الكتابة عن هذه السنوات هي حلم حياته. إنها سنوات صعود هتلر. يقول: "منذ سنة 1925 وأنا أحاول تحديد طبيعة الحشود، منذ 1931 وأنا أحاول أن أكتشف كيف تظهر السلطة من الحشود، من الجماهير... وكلما اشتغلت، كلما أصبح واضحاً لدي أنني أخذت على عاتقي مهمّة ستشغل الجزء الأكبر من حياتي".

هذه المهمة ستكون السبب في وضع كتابه "حشود وسلطة"، حيث حاول تفكيك بناء الحشود وتأثيرها، بوصفها كل ما هو ليس أنا، وفهم آلية إغواء الحشد للفرد والذي يدفعه إلى ممارسة الطمس الذاتي، متلذّذاً بمتعة أن تجرفه الحشود ويصبح نقطة في كتلة، شعور اختبره سنة 1927، حين خرج في أول مظاهرة أمام قصر العدل في فيينا.

ليس لدى كانيتي شكوك حول خطر الحشد على الفرد، لكنه يرى فيه وسيلة لتذويب الوعي المُنهِك والخطر أيضاً بالذات. في هذا الكتاب حاول فهم الاضطراب والاحتقان والتشنّج الذي دمّر الحضارة في أوروبا في سنوات قليلة، مصنّفاً الحشود في أربع حُزم يتحوّل وينتقل كل منها إلى الآخر. في العام 1992، سيعلن كانيتي احتقاره للاثنين: الأنا والجماعة، فيقول في كتابه "احتضار الذباب": "ابصق على الجميع. بما فيهم أنت".

لم تُنقل أعمال إلياس كانيتي الأساسية إلى العربية، بل انتقت ذائقة المترجمين كتابه "أصوات مراكش" بحكم القرابة الجغرافية، فالكتاب ليس الأهمّ من بين مؤلفاته. نجد كذلك "المرقّمون" الصادرة ضمن "سلسلة المسرح العالمي"، وكتابه "محاكمة كافكا الأخرى" (دار جداول) وشيء من شذراته.

المساهمون