إيف وينكين.. قلقٌ في المتحف

إيف وينكين.. قلقٌ في المتحف

13 فبراير 2020
(من أروقة اللوفر، تصوير: ديفيد هندرسون)
+ الخط -

بدا كل شيء وكأنه على ما يُرام؛ لم يحدث أن تعدّدت المتاحف وتنوّعت أغراضها كما هو الحال في هذا القرن. استطاعت بعض المتاحف الكبرى، في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة بالخصوص، أن تركّب مجمل تاريخ البشرية، منتزعة في الغالب، تحفاً ووثائق من جميع الحضارات التي عرفها العالم.

أما المتاحف الأصغر فقد ابتكرت طرقاً متنوّعة في استقطاب الزوّار، بعضها تخصّص في توثيق حياة شخصيات تاريخية أو فنية، وأخرى اشتغلت على الترويج الإعلامي لمجموعة فنية، وثالثة كانت تسير في اتجاهات غير مطروقة، مُدخلة مجالات ومفاهيم تحت سقف المتاحف لنجد اليوم متاحف للورق والأقلام والعُشب والترجمة والحب، حتى أنه بات من الممكن أن نتخيّل متحفاً لأي شيء. وبين هذا وذاك أصبحت المتاحف جزءاً لا يتجزّأ من هوية المدن وفيها تنعقد رهانات سياسية وثقافية ترعاها الدول والقوى الاجتماعية بشكل مباشر أو خفيّ.

لكن، رغم كل ذلك هناك قلق يخترق المتاحف اليوم، قلق لا يخفيه جبروت بعضها في الوصول إلى أي تحفة أو وثيقة تحتاجها لتكمل مجموعة ما، ولا تخفيه أيضاً تلك الطوابير الطويلة من المنتظرين دورهم لزيارة متحف، أحياناً من أجل مشاهدة لوحة أو قطعة تاريخية واحدة. فما الذي يحدث تحديداً؟

انطلاقاً من هذا السؤال وضع عالم الأنثروبولوجيا البلجيكي إيف وينكين (1953) آخر أعماله "أن نعيد اختراع المتاحف؟" (منشورات MkF) والذي صدر بداية الشهر الجاري وسيقدّمه المؤلف مساء غدٍ الجمعة، في "مكتبة مصر الصغيرة" في باريس.

السؤال الذي يطرحه الكتاب ليس جديداً بحال، فقد اشتعلت أسئلة كثيرة حول المتاحف أبرزها التهديد بأن تنهي التكنولوجيا دور المتاحف كوسيط بين الجمهور والمادة التاريخية أو الفنية، أكثر من ذلك هزّت المَتحفيين الغربيين موجة المطالبات بإعادة الآثار التي نُهبت خلال الفترة الاستعمارية إلى مواطنها الأصلية، ولا يخفى أن هذه العناصر هي التي صنعت مجد المتاحف الكبرى في العالم. الجديد مع مؤلّف وينكين الأخير هو أن تتصدّى الأنثروبولوجيا لهذا السؤال، وهو ما يعني أن المسألة لم تعد تقنية أو قانونية يناقشها أهل الاختصاص وحدهم بل تخطّت ذلك إلى أبعاد أشمل، وليس أشمل من تناولها من خلال حقل معرفي كان مشروعه التأسيسي قائماً على دراسة الإنسان في مجمله.

يَعتبر وينكين أن المتاحف قد قصرت مهماتها عند التجميع، متناسية دورها كمؤسسة اجتماعية ومعرفية فاعلة، فهي وعلى الرغم من كونها تقع في قلب المدن إلا أنها تشبه في طرق اشتغالها حدائق الحيوان، فأن تكون في المتحف يعني أن لا تكون في المدينة. من هنا، يرى وينكين أن متاحف اليوم ينبغي أن تبدأ في التفكير من منطلق أدوارها الحقيقية، فأن تلعب دور الوساطة بين زوّارها والمعرفة لا يعني تكديس كل الوثائق في واجهاتها ومخازنها، وإنما قبل كل شيء اختراع مقاربات تتيح وصول هذا الجمهور إلى المعرفة، وهنا يقترح عالم الأنثروبولوجيا البلجيكي 12 طريقة يسمّيها "طقوساً عمَلية" من أجل أن تأخذ المتاحف دوراً فاعلاً، خصوصاً مع فرضية أن تفرغ المتاحف الغربية من آثار بقية العالم أو أن توفّر مواقع إلكترونية مجانية إمكانية مشاهدة جميع عناصر مجموعة من المجموعات التي يعرضها أحد المتاحف.

يستند وينكين إلى مفهومين أساسيين طرحهما في كتابه المرجعي "أنثروبولوجيا التواصل" (1996)، الأول هو التصوّر التليغرافي فيكون دور المتحف ليس تجميع التحف وإنما قدرة الإيصال البرقي نحو الفكرة أو المعلومة التاريخية، وهنا قد تلعب الوسائل التكنولوجية دوراً أساسياً من طباعة رقمية أو تقنية الهولوغرم، وإن كان وينكين يلحّ على أن العنصر الرئيسي ضمن هذا التصوّر ليس استثمار التكنولوجيا وإنما استثمار قدرة البناء السردي لدى البشر. أما التصوّر الثاني فهو ما يسميه بالأوركسترالي، فالمتحف عبارة عن عنصر تنشيطي داخل منظومة كاملة عنصرها الرئيسي هو المَعلم التاريخي في فضائه الأصلي، وبالتالي فالمتاحف في تصوّرها الجديد عليها أن تلعب دوراً توزيعياً على عكس دورها التجميعي الذي اعتادت عليه.

لا ينطلق وينكين في مقترحاته من عناصر نظرية فحسب، حيث إنه ليس بغريب عن عالم المتاحف بما أنه شارك في تصميم تصورّات عدد منها وساهم في برنامج أطلقته وزارة الثقافة الفرنسية بعنوان "المتاحف في القرن الحادي والعشرين"، وهو يدير حالياً "متحف الفنون والمهن" في باريس.

أفكار وينكين وإن كانت تدور حول إشكاليات المتحف في مدن الغرب قبل كل شيء، فإنها يمكن أن تفيد المشتغلين بواقع المتاحف في منطقتنا العربية اليوم أو تدفعهم على الأقل إلى مواجهة نظرية مع إشكاليات قد يتشبكون معها لاحقاً. فلو افترضنا مثلاً أن متاحف أوروبا وأميركا الشمالية قد أعادت إلى بلدان مثل مصر والعراق وسورية جميع آثارها، ألن تكون متاحف هذه البلدان مجرّد مؤسسات تجميع دون أن تلعب الأدوار الجديدة التي يشير إليها وينكين؟ لتكون المتاحف بذلك مجرّد واجهات سياحية لا أكثر، وهكذا هو حالها اليوم في معظم البلاد العربية. أليس حرياً أن يفكّر المشرفون على المتاحف العربية من الآن في مستقبل هذه المؤسسات؟

المساهمون