الترجمة طِرْساً

الترجمة طِرْساً

06 ابريل 2019
قيس سلمان/ سورية
+ الخط -

للكتابة تاريخ طويل مع حامِلها الماديّ؛ أي ما تتجسّد فيه عِياناً، فقد تفنّن الخطاطون في تنويع أشكالها الجمالية، وفي تجسيدها منحوتة في الحَجر، ومنقوشة ومحفورة ومكتوبة في الألواح وورق البردي والزجاج والقماش ورقائق الجِلد وغيرها.

ونَعْلَم، بخصوص الجِلْد، أن الكتابةَ عرفتْ فيه حالاً اشتُهِرتْ بالتَّطريس؛ نظرا لاحتلال نصوصٍ فضاءَ أخرى سابقة عليها باعتلائها إياها أو بقيامها مَقامها؛ لأنّ القدماءَ غالبا ما كانوا يَخُطّون في الجِلد كتبَهم ورسائلَهم، وكانوا إذا ما انتهوا من حفظها عن ظهر قلب يلجأون إلى محوها، ليُحِلُّوا مكانَها نصوصا أخرى، دُونَ أن تمحو الكتابةُ المتأخِّرة بقايا الأولى تماماً، حسب الناقد جِيرَار جُنِيتْ، لأن الأثر الأسبق يبقى بعضٌ منه ماثلاً، ولا يختفي بالكامل، لذلك تكون الكتابة حضوراً مادياً متواصلاً لنصوص في نصوص أخرى، وهو شكلٌ آخرُ ماديٌّ للتناص، الذي نعرف عنه، وَفْق جُنِيت، أنه "كل ما يُحِلُّ نصاً، يصبح في علاقة جليَّة أو سريَّة، مع نصوص أخرى".

والدافعُ إلى التناص عادةً ما يكون إمَّا انجذابَ المؤلِّفين المتأخِّرين إلى نصوص الآخرين وطموحَهم إلى امتلاكها، وإما رغبتهم في تدميرِها رمزيّاً وتجاوزها. هكذا تكون الرغبة محرِّكاً فاعلاً في وجود النصوص الإبداعية والفكرية باختلاف أنواعها، وتكون الرَّغبة أيضا دافعا لحلول تلك النصوص مترجَمةً وضَيْفة على ثقافات أخرى.

والترجمةُ، بصِفتِها إعادةَ كتابة، تَسكُنها هي الأخرى الرغبة في تملُّك أصلها، وحتى تجاوزه وإدخاله حيِّز النسيان، لتحلُّ هي محلَّه، لذلك نَجِدها لا تختلف في شيء عن أجناس الكتابة الأدبية الأخرى؛ ولأن قضاياها من قضايا الكتابة عموماً، طالما أنها جنس أدبي على حدة، مثلما عرَّفها أورتيغا إِغاسيتْ، فإن المفترَض أن تكون ظاهرةُ التطريس حاضرة فيها أيضا، وإن بشكل مختلف نوعا ما.

الأكيدُ أن الترجمة تَصدُرُ عن الرَّغبة في مضاهاة "الأصل، على أساس ألا نفهم الرغبة بصفتها نقصا أو مرَضا أو عقدة، بل أن نَعِيَها، مع جِيلْ دُولوز، بوصفها إنتاجا وخلقا وابتكارا، بل بصفتها فعلا ثوريًّا، لأن الأهمَّ في نظره ليس نيل ما ترغب فيه، ولكنْ فِعلُ الرغبةِ ذاتُه، فيكون "إنتاجُ الرغبةِ، كذلك هو الميلَ الوحيدَ للعلامة، في كل المعاني حيث تشتغل الآلة". وذلك لعمري هاجس الترجمة التي تسعى إلى تخطي نص الانطلاق، أو "أصلها"، لأنّ الأهمَّ لدى المترجِم لا يكمن في الدقة وحدها، بل في اللمحة الجماليَّة ضِمن تجلّياتها المتنوعة.

لا عجب أن يكون الحافز الإبداعي في الترجمة المحرِّكَ الأساسيَّ لها، فحين ينتبه المترجِمُ إلى قدراته المختلفة من جهة، وإلى كفاءته الترجمية الإبداعية من جهة أخرى، فإنه لا يتردد في المغامرة بترجمة العمل الذي يروقُه أو يُكلَّف بترجمته، فيَكُونُ "نَصُّ انطلاقِه"، أو ما يُصطلح على تسميته "بالأصل"، مِنصَّةَ انطلاقِه.

وهُنا ينبغي أنْ ننتبه إلى أنَّ "الأصل" الماديّ لا يبرزُ للعيْن كما في الجِلد المخطوط، ولكنَّ ما لا يُمكن التغاضي عنه هو صدورُ الترجمةِ عنه، وأنها تكون مسكونة به، بدليل اختلاف الترجماتِ التي تُنجَزُ له في الثقافة الواحدة، والتي تعتمده خلفيةً لها، فهو يكون في متن آخَرَ ومَصوغا في لغة أخرى، أي في علامات قابلة لأن تُفْهَم فُهوما مختلفة أثناء نقلها إلى لسان آخر، مع ما ينجم عن هذا التحويل من اختلاف في التأويل.

تُحِيل الترجمةُ، بالضرورة، إلى نصّها الأصل، أيْ إلى آخَرِها المادي مُمثَّلا في الطِّرس، الذي تمنحُه امتداداً في الزمان والمكان، لأنها تُذيعُه في ألسنة أُخْرى ترفع منسوبَ قُرّائِه وحضورِه، وهي بذلك تَقوم بما يُعرَف بِيئيًّا بِالرَّسْكَلَة أو التَّدوير، تلك العمليَّة التي تُعيد صناعة مُنتَج لإعادة استعماله.

المساهمون