ديالا خضري: شبّاك قديم فتحه الهواء

ديالا خضري: شبّاك قديم فتحه الهواء

08 نوفمبر 2018
(لوحة "صافرة الربيع"، من المعرض)
+ الخط -
أتعلم ذلك الشعور الذي يجتاحك حين تصل إلى مدخل بيتك بعد نهار طويل وبارد، فيُدفئك النظر إلى الدرج أو الباب أو حتى النظر إلى مفتاحك بيدك؟ جرّبه. هذا الشعور بالذات، حيث تدخل الأمان كمن يدخل قلب أمه، فيملك الوقت بعد الطمأنينة للمتع البصرية يستنبطها من كل صوب. نعم هذا هو الشعور بالذات الذي قد يجتاح نبضك عندما تدخل عوالم لوحات الفنانة اللبنانية ديالا خضري في معرضها "طراز بيروت" المقام في غاليري "Art On 56th" حتى 17 من الشهر الجاري.

قد لا تعني لك زخارف رخام الدار الذي تسكنه -رغم ألفتها الناطقة بالحياة- شيئاً، قد لا يعنيك كرسيٌّ القش في زاوية الغرفة رغم بثه الراحة حتى لو لبثت واقفاً قربه، ولا سجادة بيت جدتك رغم الدفء الساكن في تفاصيل نسيجها، لكن قد تغريك درفة شباك قديم فتحه الهواء صدفة، لتنظر إلى ما في الداخل، لا إلى تكاوين خشبه المعتّق كالنبيذ.

لكن مهلاً، هذا تحديداً ما فعلته ديالا خضري في معرضها الذي يشرع شبابيك القلب على مساحات حميمة يومية دائمة حاضرة في بيروت، فتدعو الرائي إلى التفكر في حدود النظر، ومعابر الرؤية، قبل التفكر في زخرفات مدينة تذوي زركشاتها الأليفة، وتتبدل معالم حنانها إلى حنين.

هنا اللوحات أشبه بمستقر للعين، بعد رحلة البحث الحشرية الطفولية، والبهِجة في آن. رحلة بحث عن معالم مدينة تذوب هويتها المعمارية كالصابون أمام بحرها من دون أثر، إلا طيف عطر متطاير قد تخلده هذه الأعمال الفنية المحاكة بكثير من الحب والشغف والصدق مع الذات. وكذا، بكثير من الدقة والنفس الهندسي التشكيلي التأليفي المُتقن بامتياز.

عنوان المعرض بالإنكليزية أشد قرباً من المضمون والتأليف البصري، من عنوانه العربي، فـ "Beirut Patterns" يحوي ضمناً تكثيف النمط المتكرر، شرقي النزعة صوفي الهوى؛ ما يتيح للذاكرة البصرية للمشاهد العودة تلقائياً إلى إحياء الأنساق التأليفية ذات التكرار الممنهج، أو إلى تصنيفات نسقية هندسية متكررة، تعود بنا إلى تراث الزخرفة الإسلامية، بشكل خاص في العصر العباسي، أو إلى إيحاء الأرابيسك أو التطريز أو رصف العقد سقفاً لبيت. كله إذا من مخزون بصريّ متعلّق بالهوية.

عن ذلك تقول لنا رانيا عمرو قنديل، أستاذة تاريخ الفن في كلية الفنون والعمارة بالجامعة اللبنانية، بعد زيارتها المعرض: "أعادتنا ديالا إلى الزمن الجميل، هناك براعة فريدة في العمل، وحرفية عالية جداً، تفاجئ الناظر إلى الأعمال، بشكل خاص عند الاقتراب منها. حيث يشع الانفعال والفوضى كوهج من اللوحة، فيما الأعمال بغالبيتها توحي عن بعد بأنها واقعية بامتياز. لذا يجب أن نقترب من العمل لنصل الى إحساس الفنانة. تختلف الرؤية عند الاقتراب، الانفعال اللوني، طريقة التأليف، الزاوية التي أخذتها خضري للرسم، كلها أشبه بمشهد تصويري. تجعل الرائين يتوقفون ويتساءلون: ماذا حصل لسكان المبنى؟ نشعر أن هناك حواراً يلزم على التساؤل: أين هم السكان؟".

لوحة كعك كعكتساؤلات مشروعة حتماً إنما تحمل في طياتها بعدا آخر، أكثر ثورية من حدود خشبة نقلت تشكيلاً بصرياً، وقماشة شربت لوناً أكريليكياً، لتضعها في مصاف البيان السياسي لاسترداد هوية مدينة. خضري التي اختارت الريشة والخشب أو حتى القماش لتنقل عصارة تجربتها التشكيلية والمفهومية، لم تتساهل في المضامين ولا في أي مدماك من بنيان المعرض. فاللوحة هنا حاضرة بقوة: ضربة الريشة، رائحة اللون على الخشب، الإطار المستطيل أو المربع وحتى الدائري، كلها هنا لتبني معاً واحداً من أكثر المعارض جديّة من الناحية التقنية والحرفية كما الفنية هذا العام في بيروت.

هنا تجدر الإشارة إلى أن هذا المعرض واقعي الأسلوب، مفهومي النزعة، هو ثاني معرض فردي للفنانة في غاليري "آرت أون 56". عن ذلك تقول مؤسّسة الغاليري نَهى محرّم: "نشترك مع الفنانة في الخطاب عينه، ونرفع الصوت معها، لأننا نريد أن نحافظ على تراث بيروت الجميل. ديالا تسلط الضوء على تفاصيل البنايات القديمة وتضعها في مقارنة تضاد مع العمران الجديد. لقد عملنا بحدود سنتين لإنجاز هذا المعرض معًا، وكان خيار ديالا العمل عبر الريشة وألوان الأكريليك سواء على القماش أو على الخشب المضغوط، لنقل هوية بصرية صادقة عن المدينة، هي هوية الجمال الأصيل في مدينتنا".

هذه المدينة التي يحاول العمران الجديد تجريدها من حميميتها والتصاقها بالناس، تحاول اللوحات أن تنقذ وتخلد ذكرى تفاصيلها الإنسانية والشعبية والجمالية.

من خلال عناوين أعمالها تستعيد الفنانة الروح الشعبية للمدينة، نجد مثلاً لوحة من الأكرليك بعنوان "كعك كعك"، تقارب المتر ارتفاعاً وثمانين سنتمتراً عرضاً، فيها تقف فتاةٌ وتعطي ظهرها للمشاهد حتى يكاد يتقمصها، تنظر إلى إحدى البنايات المعروفة على حدود منطقة "الرملة البيضاء" قرب بحر بيروت، المبنى عمره يقارب النصف قرن ونيفاً، ذو شبابيك مدورة، والفتاة ما فتئت تشارك المتلقي النظر إلى اللوحة.

هذه ليست مجرد لوحات، إنما قصص قصيرة من بيروت ترويها ديالا خضري نيابة عن جيل كامل من الشباب والكهول والشيوخ الذين يرفضون أن تدمر البيوت التراثية أو تلك التي طبعت هوية مدينتنا. معرض أشبه ببيان عام، يرفض تطويع تاريخ مشبع بثقافة وهوية أبنائه لصالح ثقافة لا لونية، آلية، بعيدة عن الحب المعتّق في بيروت.

المساهمون