"حصين البحر" أولى بونّوس

"حصين البحر" أولى بونّوس

26 فبراير 2017
(لقطة من الوثائقي "إننا محكومون بالأمل"، لـ قيس الزبيدي)
+ الخط -

تناقلت وسائل الإعلام قبل بضعة أيام، خبراً عن طاولة مستديرة قد عُقدت في "الجامعة الأميركية" في بيروت، بمناسبة تبرّع عائلة الكاتب المسرحي الراحل سعد الله ونوس (1941-1997) بمكتبته الخاصة إلى الجامعة.

تكلّم خلال هذه المناسبة زوجة الراحل الممثلة المسرحية فايزة شاويش وابنته الكاتبة ديمة ونّوس، وكتّاب عاصروه وأساتذة جامعيون أشادوا به وبقيمته الأدبية.

كما ارتاح الجميع، كما فهمنا من خلال قراءة مقتطفات من مداخلاتهم، لراحة ونّوس الأبدية، والتي تضاعفت حين ارتاحت كتبه التي جمعها على مدار السنوات على رفوف مكان آمنٍ و"جميل جداً"، لا يأكله سوس ولا تصله نيران حرب. هذه هي الهدية التي أعدّتها له أرملته في عيد ميلاده الخامس والسبعين، كما يقول النبأ. فهل سُعِد سعد الله بهذه الهدية، "الثمينة جداً" كما وصفتها هي؟

خروج محتويات مكتبة سعدالله ونوس، والتي يبلغ عددها حوالي 4500 كتاب تقريباً، في ظلام هذه الأيام من بيتها إلى الجامعة الأميركية في بيروت هي، كتحطيم الأوابد التاريخية، خسارة أخرى لسورية تُضاف إلى خسارات هذه الحرب الملعونة التي تطاول كل شيء.

ومن الواضح جداً أن زوجة وابنة الفقيد لا تريدان أن تظل الكتب في دمشق، وليس لدينا إلا تفسير مقنع واحد لذلك، ألا وهو الموقف السياسي المعارض لكلتيهما. أما أن يكون الأمر يخص "الأمان" فهو باعتقادنا غير وارد لأنه كان من الممكن أن تودعا الكتب لدى الأميركية أو غيرها، كأمانة إلى أجل مسمّى أو لنقل حتى تستقر الأمور في البلاد.

أما المكان الجميل الذي تحدّثت السيدة فايزة عنه فهو كلام شاعري لا أكثر، فأي مكتبة بسيطة يتردد عليها طلاب العلم ويستفيدون من أرشيفها أو من محتوياتها هي مكان جميل جداً. ويمكننا أن نستثني من الأسباب الأمر المادي، على اعتبار أن الصحف قد تناقلت أمر التبرع، وهذا يعني أنها هدية من غير مقابل، اللهم إلا حفظها والاهتمام بها، وأمر تكريم الراحل مفروغ منه، فهو أهل له من قبل أي مؤسسة أكاديمية ومن دون الحاجة إلى مسألة التبرع تلك.

ويصدف أن سمعنا، قبل بضعة أسابيعٍ تقريباً، أن البنك المركزي الألماني قد قام بسحب كمية من احتياطي الذهب الذي كان يودعه في الولايات المتحدة، في خطة إلى استعادة كامل احتياطه من المعدن النفيس والذي كان مخبأً منذ اندلاع الحرب الباردة في بنوك خارج حدوده تحسباً من أي طارئ. فالحاجة إلى حفظه بعيداً قد انتفت.

ومكتبة ونوس، في قيمتها الرمزية أولاً والمادية ثانياً، هي ذهب سوري، وكم وددنا لو أن اتفاقاً قد عُقد مع الجامعة الأميركية يتم بناءً عليه استعادة الكتب لتحتضنها مكتبة وطنية يتردد إليها طلاب البلد، وهُم أولى. فهل ستعود المكتبة إلى الفضاء الذي ولد وعمل وأبدع فيه الراحل أم ستبقى على رفوف مكتبة تعود لدولة لا تألو جهداً في تدمير بلداننا مقابل بعض اللفتات الكريمة الحضارية والإنسانية؟ نعرف أن طلاب الجامعة الأميركية هم طلابنا أيضاً ولكن إلى متى سنظل نذهب "إليهم" لنعرف "عنّا"؟

إن هذا الموقف السياسي من قبل أهل الراحل، إن وُفِقنا في تحليلنا، هو خسارة لأولاد البلد أولاً وأخيراً. فالمثل الفرنسي الدارج يقول، ما معناه إن وهبتَ فقد وهبتَ، إذا استعدتَ فقد سرقتْ.

فإن قلنا إن كتبه هي الآن في مأمن من نيران معادية أو صديقة، فذلك لا يعني أن حصين البحر، حيث ولد الكاتب الكبير، لم تكن هي الأولى باحتضانها، وربما في متحف صغير يحمل اسمه، على غرار ما تقوم به شعوب كثيرة مع مسقط رأس أعلامها.


* فنان تشكيلي سوري

المساهمون