مهاب نصر.. خطوات في ممرّ الكتابة

مهاب نصر.. خطوات في ممرّ الكتابة

12 أكتوبر 2018
جاذبية سرّي/ مصر
+ الخط -
حين ظهرَت نصوص مُهاب نصر على الإنترنت في أواخر الألفينيات، بدت وكأنها معجزاتٌ صغيرة. كانت تؤكّد وجود الشعر وتدفع إلى الإيمان به وقت كفرت الغالبية العظمى من القرّاء بالقصيدة.. حتى داخل الوسط الأدبي.

في النصف الثاني من الألفينيات، كان الشعر المصري (وما زال) يقتصر على حالتَين: إما استعادةٌ باهتة لأمجادٍ عروضية وعامية بالية، أو أثرٌ استعراضي و"خبوي" بالمعنى السيئ. على مدى ربع قرن، منذ صعود "جيل التسعينيات" كظاهرة على الأقل قضّت مضاجع شعراء التفعيلة المكرّسين، كانت قصيدة النثر قد فقدت إلى حدّ بعيد طاقةَ التمرّد ونبرة الصدق وبساطة الأداء التي تميز التسعينيّين في أحسن أحوالهم.

أصبح غياب الجمهور تصريحاً بإسقاط كل اعتبار جمالي أو فكري بحجّة محاكاة "اليومي" وتمثُّل "الجسد"، وبات غير متوقّع على الإطلاق أن يجود فيسبوك بقصائد نثر ـ مثل هذه ـ تتحقّق فيها مآرب التسعينيات بمعزلٍ عن الادعاءات والمعارك.

كانت هذه أيامَ الثورة والكلام، بعد نحو خمس سنوات من انتقال مهاب إلى العيش والعمل في الكويت، وتغييره مهنته من التدريس إلى الصحافة. كانت احتجاجات 2011 قد فتحت أبواب الكلام. فعلى عكس ما يبدو، لم تكن القضية سياسيةً بقدر ما كانت، مثلها في ذلك مثل أجواء الوسط الأدبي في التسعينيات، صراعاً بين خطابات متناقضة مع الواقع، ومحاولات لم تنجح إجمالاً في خلق حوار نقدي ليس هدفه اغتيال إحدى الجهات المتحاورة. تصاعد صوت مهاب إذاك حتى صار يجلجل حقّاً.

"يا رب اعطنا كتباً لنقرأ"، و"خطوة في ممرّ"، و"يا ملاكي".. قصائد باهرة لا تشبه شيئاً، زاد من مصداقيتها أن كاتبها ـ الذي صدر ثالث دواوينه "لا توقظ الشعب يا حبيبي" عن "هيئة الكتاب المصرية" هذا الشهر ـ غائب عن الساحة منذ عقدٍ أو أكثر. صحيح أنه معروف ـ مع علاء خالد وزوجته سلوى رشاد ـ عبر فريق العمل المؤسّس لمجلّة "أمكنة" التي صدر عدُدها الأول سنة 1999. لكنه بخلاف المقال ثم مداخلة فيسبوك، لا بضاعة له في السوق، ولا دكّان.

كتابُه الوحيد حتى 2012، "أن يسرق طائر عينيك"، صدر (عن الهيئة أيضاً) سنة 1997. وربما لم يكن من قبيل المصادفة أنه لم يحظ بالاهتمام المنتظَر في دوائر قصيدة النثر. كانت أجواء الشعر الجديد تدور حول الصراحة وكسر التابوهات وما إلى ذلك من مناقب اقترنت صواباً أو خطأً بـ"جيل التسيعنيات"، بينما في هذه القصائد محاولة مركّبة لاستدعاء ومساءلة الموروث الشعري عبر الدراما واللعب والمفارقة الساخرة.

يتذكّر مُهاب أنه كان مشغولاً بقدرة الحوار المسرحي على تكوين الشخصية وتحديد الفعل الإنساني في لحظة حياتية ما، كما أراد أن ينقض البلاغة الاعتباطية والجمال المجاني في تاريخ الشعر الغنائي بالذات، كونه عواداً وملحّناً فضلاً عن أنه شاعر، وهو ما دفعه أصلاً إلى التوقّف عن كتابة شعر التفعيلة.. ما سيوصله في النهاية إلى النصوص الحالية، والتي لا تختلف جوهرياً عن نصوص الديوان الثاني "يا رب اعطنا كتباً لنقرأ" الصادر عن "دار العين" سنة 2012.

لم تكن قصيدة النثر بالنسبة إلى مهاب إيماءة تحرُّر أو قطعاً مع الماضي بقدر ما كانت، كما يُسمّيها، مساحةً بيضاء خاليةً من تأثير الصيَغ الجاهزة والاستعارات المتوارَثة التي ما إن يُمسك عوده ليغنّي حتى تتكاثر تلقائياً في رأسه.

لذلك، ولأنه ينفرد بخبرات دينية وأخلاقية جديرة بريلكه، لا يمكن أن يُنظَر إلى هذه النصوص في ضوء التجربة التسعينية وحدها. فرغم قربه من علاء خالد والراحل أسامة الدناصوري، وهما بمثابة أبوين روحيَّين لجيل التسعينيات، يبدو مهاب أقرب إلى الأجواء الفكرية لألمانيا في بداية القرن العشرين (نيتشه ثم والتر بنيامين) منه إلى أميركا "البيت جينيريشن".

ولعلَّ جيل التسعينيات كان موازياً لتطوُّر تجربته أكثر ممّا كان متقاطعاً معها، فقد تزامن انتقاله الذي لم يدم من الإسكندرية إلى القاهرة إثر لقائه بزوجته الأولى، أروى صالح، مع صعود شعر التسعينيات.

طرحَت هذه الخبرات أسئلة حول علاقة الأدب بالحياة، واللغة بالواقع، والجمال بالسلطة: هل يمكن لنصّ ما أن يتطابق مع ما يصفه؟ هل يمكن للأدب أن يكون إعادة إنتاج محايدة للحياة؟ هل يكون خطابٌ ما معارضاً للسلطة لمجرّد أنه ينطوي على جمال أدبي أو نظرة فنية إلى الواقع؟ ثم هل يمكن لإنسان ما أن يكون تجسُّداً حقيقياً لمبدأ جمالي أو أخلاقي يؤمن به؟ أم أن التطابق بين الإنسان وقناعته يؤدي، كما حدث وفعل مع أروى صالح، إلى الانتحار؟

وربما خفَّف كلُّ هذا من جنوح مهاب إلى الأفكار المجرّدة والمعضلات الفلسفية فأكسب نصّه - فضلاً عن الدراما والمفارقة وتضمين "اليومي" و"الجسد" في ممارسة أدبية أقرب إلى اللقاء الشخصي - شعريتَه. وهي بتعريفها قدرةُ النص على تجاوز نفسه، أو الإشارة بالكلام إلى أن هناك ما هو أقوى وأجدى من أي كلام محتمل. يقول أحد في نصوص الكتاب الجديد:

"يوم تحسّستُ رأسي
لم أعد بحاجةٍ إلى السجود
لأن الله كان هناك دائماً،
صحراء
مستديرةً وخاشعة
وكنتُ أحلم
كالأنبياء
أحلم بالدم.. وبشعوبٍ
تَضربُ هذه الفيافي
وتُفجّر العينَ المقدّسة الوحيدة
وكلما مسحتُ رأسي
بكيت
كنبي مريضٍ بالوحدة والانتقام.. ".

دلالات

المساهمون