لؤي كيالي.. وطأة الهزيمة أم عنف الزملاء؟

لؤي كيالي.. وطأة الهزيمة أم عنف الزملاء؟

30 اغسطس 2017
(كيالي في مرسمه)
+ الخط -

يتمتّع الفنان السوري الراحل لؤي كيالي (1934 ـ 1978)، بجماهيرية واسعة، لا تنازعه عليها إلا قلّة قليلة من الفنانين السوريين. ويعود ذلك إلى عدة أسباب، أولها المواضيع "الشاعرية" والشعبية البسيطة التي كان يقدّمها في لوحاته، كذلك إلى شخصيته المرهفة التي عُرف بها، وأخيراً لطريقة موته الدرامية. كل ذلك لا يعني أننا نتجاهل فرادة أسلوبه أو حرفيته العالية.

ونحن لا نستعيده هنا لمناسبة محددة، ولكن الدوّامة التي نعيشها الآن تذكرنا بسنوات الستينيات من القرن الماضي، سنوات "النكسة" التي كان لها تأثيرٌ كبير على حياة هذا الفنان بكل تفاصيلها، كما على كل أبناء جيله من فنانين وأدباء.

في مقالته "كيالي في عينيّ ممدوح عدوان"، يكتب نجاح حلاس: "وحين لا يجنّ أحد فهذا دليل على تبلّد الأحاسيس" ويتابع الكاتب على لسان عدوان الوارد في المقالة نفسها واصفاً الكيالي: "كانت لديه الجرأة لإعلان جنونه دون أن يهتم للآخرين الذين حاولوا تغطية هذا الجنون الذي فضح عريهم بأوصاف اختاروها مثل أزمة عصبية أو انهيار عصبي...".

أما نحن، وبعد كل هذه السنوات الكارثية من القتل والتدمير والتهجير، فما زلنا "صامدين". لا ندري إن تبلّدت أحاسيسنا أم أننا قد أصبنا بأمراضٍ لم تظهر أعراضها بعد. عصرنا هو بالتأكيد غير عصر كيالي، كما هو غير عصر خليل حاوي، الشاعر اللبناني الذي أطلق على رأسه النار وهو يرى جيش الاحتلال "الإسرائيلي" يدخل بيروت عام 1982. حتى في أحاسيسنا أصبحنا نخضع ربما لمنطق السرعة والتهافت على الانتشار والتسويق والظهور العادي أو الافتراضي، ففقدنا براءتنا أو صفاءنا، أو ربما لم نبلغ حداً من القهر يكفي كي نجنّ أو كي ننتحر!

هل انتحر كيالي أم كان ضحية حريق تسبّب به هو نفسه؟ هل كان سبب مرضه النفسي (الشكل البسيط للفصام المترافق مع هياج جمودي) هو هزيمة أمته في حرب حزيران/ يونيو، أم كانت هزيمته هو شخصياً في مجابهة حلقةٍ من "أهل الفن والأدب" قساة الروح عنيفي التصرفات؟

تشير الوقائع إلى أن سبب وفاته كان الحريق الذي التهم فراشه حين داهمه النوم وهو ممسك بسيجارته المشتعلة تحت تأثير تلك الحبوب المهدئة التي كان يتناولها... لكن تفسير هذه النهاية المأساوية يتغيّر بحسب الأشخاص. فمنهم من يتكلم عن القضاء والقدر، وآخرون يؤكدون أن الكيالي قد تقصّد تناول جرعة كبيرة من تلك الحبوب بقصد الانتحار، والحريق قد قام بالمهمة التي كان قد أوكلها الكيالي للحبوب.

فالروائي خالد خليفة، يكتب في روايته "لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة"، ملاحظة يجزم فيها بأن لؤي كيالي قد انتحر. ويشير إلينا في رسالة إلكترونية أن رواية الحريق هي رواية "جبانة" وأن الفنان الراحل كان متقصداً الانتحار نتيجة الحصار الذي تعرّض له من الوسط الثقافي السيئ (وهنا قد لطّفنا عبارته) الذي كان يعيش فيه. ثم يضيف لنا خليفة: "كان لؤي رجلاً رائعاً ووسيماً جداً ومبدعاً جداً، يعني نافر في زمنه"، ليشير ربما بهذا لسبب تلك العداوة وذلك الحصار.

يتعارض ما كتبه أنور محمد مع كلام خليفة، ففي مقالة عنوانها "رداً على الأديب فاضل السباعي" تعود إلى سنة 2009، يورد محمد كلاماً على لسان الراحل بحضور الناقد صلاح الدين محمد والشاعر حامد بدرخان، يقول كيالي: "أنور، أنا لم أنتحر". ولكن صلاح الدين محمد الذي كان حاضراً حينها يكتب في صحيفة الثورة بُعيد رحيل الفنان: "يُفرغ (كيالي) علبة من الفاليوم في المعدة الخاوية [...] ويسحب آخر الأنفاس من السيجارة الكارثة". فمن نصدق؟

ويبدو أن الكاتب عادل أبو شنب، الذي كان يعرف أيضاً الكيالي عن قرب، لا يهتم لسبب وفاته تلك، بل يجعلها خاتمة منطقية لتسلسل أحداث حياته: "وسواء احترق أم أحرق نفسه، كان قد وضع حداً لحياته بالسيجارة التي كانت في يده، وبحبة فاليوم، وبكآبته وسوداويته، وتوفي"، يكتب في صحيفة الثورة تحت عنوان "تراجيديا حياة لؤي كيالي".‏

قصة مرضه أيضاً تناولتها الصحافة في أخذٍ ورد ما بين أنور محمد الذي كتب في مقالة نشرت في "السفير الثقافي" سنة 2009: "لؤي كان يحلم، لم يكن مجنوناً كما أراد له أقاربه ومديرُ صحَّة حلب يومها أن يكون، أرادوه مصاباً بالصرع".

الأمر الذي دعا عائلة الفنان لدحض هذه الادعاءات، شارحين في ردهم على محمد مرض كيالي الحقيقي واهتمامهم به وليس كما ادعى الكاتب في أن صهر كيالي قد تقدم بطلب إلى مدير مشفى الأمراض العقلية بحلب بأن يقبل دخول الفنان إليها "لأنه صار يشكّل خطراً على المحيط والجوار".

وتعود انتكاسة كيالي النفسية في الواقع إلى بداية عام 1964، مع تطوّر وعيه السياسي، ونلحظها أولاً في تحوّل صفاء شخصياته الذي ميّز إنتاجه السابق إلى القلق والحزن في النظرة.

في معرض أقيم في خريف عام 1965، شارك كيالي بلوحته الشهيرة عن اللاجئين الفلسطينيين "ثم ماذا؟"، ومن ثم أقام كيالي معرضاً "في سبيل القضية"، الذي تنقل في عدة مدن قبل أن يصل اللاذقية عشية حرب حزيران 1967. كان هذا المعرض يتنبأ بالحرب الكئيبة. عند افتتاح المعرض في دمشق، يكتب أبو شنب، قدّم كيالي لنفسه بكلمة تحدث فيها عن اللوحات، "وكيف أنه رسمها باللون الأسود والأبيض، ليبرز قتامة نظرته إلى الحياة، وإلى القضية".

تعرّض الكيالي إلى نقد عنيف وعدوانية من قبل النقاد وبعض زملائه الفنانين والكتّاب، في الندوة التي أقيمت في دمشق وفي الصحافة، واصفين هذا الإنتاج كـ"فن مسرحي مصطنع" يشوّه الصورة الحقيقية للمناضلين.

مزّق كيالي الأعمال كاملة على أثر الهزيمة الفاجعة. أما النكسة فلتكن النكسة الصحية التي ألمت به من وقتها لتنهي حياته ببطءٍ ويقضي عليه أخيراً الحريق الذي أشعله في الحقيقة الواقع السياسي المزري ووسط "ثقافي" عنيف.

المساهمون