متر مربّع في مونمارتر

متر مربّع في مونمارتر

06 اغسطس 2018
(رسامون في "بلاس دو تيرت"، تصوير: فراد ديفور)
+ الخط -

في القرن التاسع عشر، وحتى منتصف القرن العشرين، كانت ضاحية مونمارتر في باريس ملجأً لأكثر من رسّام آتٍ من شمال أوروبا وشرقها وجنوبها، ومدن فرنسية مفرّقة. كان ذلك حال الهولندي فان غوخ، والإسباني بيكاسو، والفرنسي رينوار.

بُعدُ مونمارتر عن وسط العاصمة الفرنسية من جهة، والمشاهد التي تقدّمها جعلا منها أفضل وجهة للفنّانين، ولا شكّ في أن أسعار التأجير كانت معقولة؛ بحيث لا ينفرون منها، خصوصاً أنهم في بداياتهم لم يكونوا يؤمّنون سوى قوتهم اليومي، وغالباً عبر الجلوس في الطرقات ورسم بورتريهات للعابرين.

من يُصدّق أنه بعد عقود، سيكون من الصعب على الفنّانين أن يجدوا متراً مربّعاً يضعون فيه محامل اللوحات، كي يرسموا المارّة كما فعلوا دائماً. قد لا يُصدّق الأمر، غير أن ذلك هو واقع الضاحية الباريسية اليوم.

قبل ذلك، تجدر الإشارة إلى أنه من عداد المستحيل أن يعيش فنان في مونمارتر اليوم حيث تعدّ أسعار التأجير من بين الأرفع في باريس. وقد حدث ذلك نتيجة "الهجمة" السياحية التي بدأت في تسعينيات القرن الماضي. المفارقة الغريبة تتمثّل في أن جاذبية مونمارتر لا تزال قائمة على أنها حيّ فنّي، لكن الحقيقة التي لا يقولها أحد هي أن الفن في طور الاختفاء من هناك.

ومن بين الأشياء التي يحرص زائرو باريس على فعلها الذهاب إلى مونمارتر من أجل أن يُرسموا في بورتريهات ينجزها في ظرف دقائق فنانّون على الأرصفة. قريباً، قد يكون ذلك ذكرى جميلة اندثرت من باريس.

مؤخراً، احتجّ رسّامو مونمارتر على قرارات من البلدية جعلت معظم "بلاس دو تيرت" في مونمارتر في ذمّة المطاعم والمقاهي، وهو ما اعتُبر انتصاراً للربحية المادية على حساب الفن، واستهتاراً واضحاً بمورد رزق الكثير من الرسّامين. المحتجّون باتوا يهدّدون برحيل جماعي من المنطقة، وهو ما ينذر بهبوط في المداخيل السياحية.

تبدو الوضعية الجديدة كارثية للجميع، فقد أصبحت 80% من مساحة "بلاس دو تيرت" محتكَرةً من قبل أصحاب المطاعم والمقاهي، ما يعني أن الخمس المتبقي (قرابة 1400 متر مربّع) ينبغي أن يؤمّ قرابة ثلاثمئة رسّام. وإذا حذفنا المسالك الضرورية من أجل الحركة، لن يبقى لكل رسّام سوى ما يقارب المتر المربّع للقيام بعمله.

وكثير من هؤلاء أشار إلى أن هذا الوضع يصعب العمل فيه، إذ يحتاج الرسّام إلى فضاء متّسع حوله، إضافة إلى حاجة الأشخاص الراغبين في الحصول على بورتريهات إلى فسحةٍ للاستمتاع بلحظة فريدة، حين يجلسون لبعض دقائق كموديلات أمام الرسّامين.

ليس الوضع في مونمارتر سوى انعكاس لحالة عامّة يعيشها العالم، وليس باريس وحدها، منذ عقود قليلة، حيث لا تترك النزعة المنفعية المادية شبراً إلا وتحاول استثماره. هذه المرّة يبدو الأمر أقرب إلى من يحفر تحت بيته بحثاً عن كنز، حتى إذا وصله كان قد خلخل أسس المبنى الذي يعيش تحت سقفه.

المساهمون