"أنا والكتب": خارج النسيان والأمية الأدبية

"أنا والكتب": خارج النسيان والأمية الأدبية

15 مايو 2018
(طريف الخالدي)
+ الخط -

يمهّد المؤرّخ الفلسطيني طريف الخالدي (القدس، 1938)، لكتابه "أنا والكتب" (منشورات الجمل، 2018)، بتوضيح طبيعة الكتاب، حيث يشير إلى كونه "رحلة مع الكتب"، وضعها أستاذ متقاعد، وفيها يحاول أن يستعرض ما مر به من قراءات منذ الطفولة. هكذا، يمزج المؤلف بين السيرة الذاتية والاكتشافات التي تتالت عليه في عالم الكتب، لكأنها سيرة ذاتية مادّتها الكتب والعوالم التي رافقت التعرّف على كل منها واكتشاف ما وراءها من مشاغل واهتمامات.

يبدأ الفصل الأول مع الطفولة في القدس، حيث يكشف الخالدي أن أوّل الكتب التي قرأها هي قصص الكاتب المصري كامل الكيلاني الذي كان رائداً من روّاد كتابة قصص الأطفال في عالمنا العربي، وقد رافقته هذه الكتب لسنوات عدة، حتى انتقل به الشغف من الكيلاني إلى جرجي زيدان الذي يقول إنه التهم رواياته التهاماً، من "العباسة أخت الرشيد" إلى "المملوك الشارد".

في العاشرة من عمره، اضطرّ المؤلف إلى الهجرة من منزل العائلة في القدس ليستقرّ في بيروت، وهناك انتقل إلى قراءة "قصص أرسين لوبين" التي كانت رائجة في تلك الفترة. يعتبر المؤلف أن هذا الخيار هو نوع من "التدهور" في مستوى القراءة الذي بلغ ذروته مع تعلقه بمجلات الكوميكس، حسب تعبيره.

في 1951، قرّر الأهل إرسال الشاب إلى مدرسة داخلية في إنكلترا، وهنا بدأ بتعلم اللغة اللاتينية واليونانية القديمة، فكانت جرّاء ذلك مرحلة تعرّف فيها على الأدب اللاتيني، ويبدو أن إنياذة فرجيل هي أكثر ما رسخ في ذهن القارئ من تلك الفترة. ثم تلتها السنوات الثلاث في أكسفورد حيث تحوّل الخالدي للقراءة باللغة الإنكليزية بالكامل، وخصوصاً في مجال التاريخ.

بعد ذلك، التحق المؤلف بدائرة الثقافة العامة في "الجامعة الأميركية" في بيروت، ليركز في قراءاته على الأدب الإغريقي، في أعمال هوميروس وأفلاطون وأرسطو.

يتوقف الخالدي عند "الكوميديا الإلهية" لـ دانتي، مبدياً إعجابه بما تحفل به هذه الملحمة الشعرية من غنى على مستويات عدة: لاهوتي وعلمي وسياسي وأخلاقي. ومن بعدها، يتجه للحديث عن ميكافيللي وكتابه "الأمير"، ومن ثم إلى مؤلفات من يسميه "العبقري الذي يخاطبنا عبر فن المقالات"، إنه الفرنسي ميشيل دي مونتاني، الذي يقارنه المؤلف بالجاحظ في الأدب العربي. فكلاهما يتمتع بفضول لا ينضب للمعرفة؛ معرفة الإنسان والمجتمع والطبيعة والأدب، وكلاهما يستخدم أسلوب "الرسالة" أو "المقالة" لتلخيص أفكاره وإيجازها وجعلها على درجة عالية من التكثيف، وكلاهما كان ينتقد طروحات عصره بشكل يمزج بين الجد والهزل.

يُفرد المؤلف العديد من الصفحات في وصف الجاحظ وآثاره فيقول: "لعلنا لا نخطئ إذا سمّينا الجاحظ ميكروكوزماً، أي عالماً صغيراً. فالجاحظ أحدث شرخاً فكرياً عميقاً في الثقافة العربية، بل قد نقول إنه صاغ لها مفاهيم تختلف جذرياً عما جاء من قبل".

وتحت عنوان "في جامعة شيكاغو"، يكتب المؤلف: "في العام 1966، بدأت مرحلة جديدة من سيرتي مع الكتب. فقد آن الأوان للتفكير الجدّي بالمستقبل العلمي، أي بالحصول على الدكتوراه"، وقد اختار لهذه الغاية مجال الدراسات العربية والإسلامية، وتحديداً دارسة التاريخ الوسيط، ثم استقر في اختيار الكتابة عن المسعودي، فيعدّد آفاق المؤلفات التي تركها هذا المؤرخ القديم، والتي يرى الخالدي أنها تتعدّى السرد التاريخي البحت لتشمل ليس فقط تاريخ العالم كما عرفه معاصروه، بل أيضاً العديد من العلوم المتصلة بالتاريخ، كالجغرافيا وعلوم الطبيعة والمعرفة التاريخية وعلم الكلام وتواريخ الأمم الأخرى.

يتساءل الخالدي عن السر الذي لا تزال تحمله الأعمال الكلاسيكية العربية بحيث لا تزال إلى يومنا هذا مقروءة وشيّقة، ويقدّم إجابة تنطوي على اجتهاد يستحق التقدير، حيث يكتب: "لماذا نعود إلى الجاحظ وابن قتيبة والمسعودي وابن خلدون وغيرهم مراراً وتكراراً؟ إني أرى في هذه الأعمال الكلاسيكية ميزة مشتركة هي ميزة تخطّي الحدود مع ما يواكب ذلك من نبذ للتقليد وتحدٍّ للتقاليد واستنطاق للمحظورات بهدف الإبقاء على الأبواب مفتوحة أمام كافة الأسئلة، فلا يوجد سؤال له جواب نهائي".

يتحدّث الخالدي لاحقاً عن ثلاثة من أبرز مؤرّخي العرب هم: اليعقوبي والمطهر ابن طاهر المقدسي ومسكويه، ولا ينسى الإشارة إلى الطبري، مستشهداً بمقولته عن أن المعرفة التاريخية لا تتم "إلا من أخبار المخبرين ونقل الناقلين دون الاستخراج بالعقول والاستنباط بفكر النفوس". وأخيراً، تتوّج هذه المرحلة بإشارة الخالدي إلى أنه توّج هذه المرحلة من القراءات بنشر كتابه "فكرة التاريخ عند العرب: من الكتاب إلى المقدمة".

بعد ذلك، ينتقل المؤلف إلى مرحلة أخيرة تتسم بقراءات أكثر تنوّعاً في التراث، وضمنها يشير إلى مقالة كتبها بعنوان "جناح بعوضة: آراء الجاحظ في تقدم العلوم"، وأتبعها بعد بضع سنوات بمقالة أخرى أكثر شمولاً بعنوان "فكرة التقدم في الإسلام الكلاسيكي"، ويذكر المصادر التي اعتمد عليها لإنجاز هذا البحث، وفيها تظهر بشكل جلي الكتب ذات النزعة الفلسفية، مثل "الأدب الكبير والأدب الصغير" لابن المقفع، و"القسطاط المستقيم" للغزالي، و"البديع" لابن المعتز، و"أخبار أبي تمام" لأبي بكر الصولي، و"جامع بيان العلم وفضله" لابن عبد البر الأندلسي، وكتاب "الحروف" للفارابي، و"فصل المقال" لابن رشد.

في 1981، شارك الخالدي في كتاب أصدرته "الجامعة الأميركية" في بيروت تكريماً لـ إحسان عباس، في كتاب بعنوان "فكرة المدينة في صدر الإسلام"، وهو عمل يشير إلى أنه فتح أمامه الأفق واسعاً للترحال في كتب الجغرافية العربية، والتي يقدّم المؤلف قائمة مصغّرة بأكثرها إمتاعاً ولذةً للقراءة، فيذكر "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم" للمقدسي البشاري، وكتاب "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" للشريف الإدريسي، وبعدهما كتاب "معجم البلدان" لياقوت الحموي.

في سنوات الثمانينيات، شرع الخالدي في دراسة حضور المسيح في التراث العربي، ليصل إلى إنتاج كتاب بعنوان "المسيح المسلم" (2001). ثم يلتفت بنا إلى موضوعة التاريخ الحديث من زاوية المذكرات، فيورد أهم كتب المذكرات العربية مبتدءاً بمذكرات والدته "جولة الذكريات بين لبنان وفلسطين"، ومذكرات الزعيم المصري سعد زغلول، ومذكرات بابكر بدري من السودان، أما من سورية، فيختار مذكرات خالد العظم، ومن لبنان مذكرات يوسف الحكيم بعنوان "بيروت ولبنان في عهد آل عثمان"، وأخيراً يشيد باثنين من المذكرات التي يراها الأوسع فائدة والأعمق فكراً؛ الأولى: مذكرات رستم البعلبكي، والثانية مذكرات محمد عزت دروزه النابلسي، لأهميتهما الفائقة في كتابة تاريخ العرب الحديث.

في الفصل الأخير، يروي المؤلف شروعه، بناءً على طلب دار نشر، في تأليف كتابه "صور النبي محمد في التراث الإسلامي"، والذي يناقش من خلاله كتبَ السيرة النبوية وأهم أعلامها، ويبيّن المدارس المتعددة في كتابة السيرة المحمدية، ليختم الكتاب بما يشبه الوصية، حيث يقول: "إن سعادتي لن تكتمل سوى حين أرى غيري من الأكاديميين العرب الذين وصلوا مثلي إلى سن التقاعد قد سلكوا الطريق ذاته، وكتبوا لنا ما مرّ بهم من كتب جديرة بالاعتبار والإحياء، فنقف على تراث أراه اليوم مهدداً بالإهمال والجهل والنسيان والأمية الأدبية واللغوية".

المساهمون