القدس أم هي الأندلس؟

القدس أم هي الأندلس؟

01 سبتمبر 2019
(رولا حلواني، فوتوغرافيا من سلسلة "الجدار"، 2005)
+ الخط -

لم تعد "القدس الشرقية" (القسم الذي احتل عام 1967 بعد احتلال قسمها الأول عام 1948) تشكّل من إجمالي مساحة المدينة، غير 12% تقريباً. وهذه المساحة منذورة للتناقص والتآكل يوماً بعد يوم. أما أهلها العرب، البالغ تعدادهم نحو 24% من التعداد العام، فمرشحون هم كذلك للنقصان.

ثمة طرق جهنمية مدروسة للضغط عليهم وتنغيص حياتهم، بحيث يهربون ويهاجرون لمدن الضفة الغربية أو الخارج. خذ نظام التعليم مثلاً، فالمدارس العربية تعاني من التكدس والإهمال، ولا يوجد بها مختبرات أو ملاعب رياضية، سوى في مدرسة واحدة فقط.

وثمة تدخلات فظيعة لتهويد وأسرلة مناهج التعليم. أما السكن فحدّث ولا تتعب: ممنوع إضافة أي ملحقات على منزلك، وإن بنيت مضطراً، لتزويج ولد، أو ما شابه، فثمة المخالفات الباهظة، بحجة عدم حصولك على رخصة. مخالفات تصل أحياناً إلى أرقام فلكية من الشواكل، يدفعها مواطنون فقراء أو مستورون في الأغلب، والبلدية تستمرّ في ملاحقتك سنوات. أحدهم حدثني عن 350 ألف شيكل (أقل من مئة ألف دولار بقليل) وقال إنهم في زمن أبو عمار، كانوا يبعثون المخالفة لمكتب الرئيس، فيدفعها أبو عمار عنهم. أما الآن، فـ"أبو مازن" يقول لنا: "كفى تسوّلاً"!

كل الإنشاء العاطفي الذي نقرأه ونسمعه خصوصاً في الفضائيات العربية ذات الجعير، حول القدس وضرورة مؤازرة أهلها العرب، هو محض كلام. لم يرتق إلى درجة الفعل، ولو مرة. فسكان القدس متروكون للمجهول. وحيدون، وعاجزون عن مقارعة هذه حكومات الاحتلال المتعاقبة. "إسرائيل" تستفرد بهم، كما قلت سابقاً، كل فرد على حدة. إنّ أشدّ ما آلمني هو إحساس المقدسيين المُمضّ بأنهم منسيون من محيطهم العربي والإسلامي. إحساس عميق وأسيف، بأن لا فائدة. لقد خلا الجو لـ"إسرائيل" لتفعل ما تريد، دون حتى أضعف الإيمان وهو الدعم المالي.

اليوم ذهبت وزرت بيتاً مقدسياً غير بعيد عن الفندق الذي أقيم فيه (في حيّ الشيّاح). بيت بغرفتين، عتيق، يقع على منحدر، ويسكنه عشرة آدميين. بيت متداع وعطِن، ومحظور على الأب حتى محاولة ترميمه. شعرت بغصّة وأنا ألاحق كلامه المنفعل. كم هو فظيع الظلم. في نهاية الزيارة تحشرج الرجل وبكى بانكسار. لم أجد ما أشدد به أزره. كل الكلمات في سياق كهذا كاذبة وماكياج مبتذل.

خرجت من عنده، وتجوّلت في الحي السكني، فراعني نفس الحال: بيوت مكتظة ومتداعية، يمكن تلخيص وضعها بكلمة واحدة: الإهمال. نزلت وانحدرت أكثر في شارع يحمل اسم "سلمان الفارسي". في نهايته رأيت جزءاً من الجدار العازل. يقال الآن بأنّ الجدار الملتفّ على المدينة كالأفعى، لم يبق منه غير 56 كيلومتراً، لكي يكتمل عزل القدس نهائياً عن محيطها الفلسطيني. يا للهول!

أمشي وأمشي: أعطي نفسي لدروب وزنقات، وأحواش كيفما تيسّر. من هذا المرتفع، أرى الجبال البعيدة العارية. وأرى كنيسة بديعة التكوين، على قمة جبل هناك. ترى ما اسمها؟ يلزمني دليل هاهنا لكي أعرف. ونجوان مشغول بنشاطه الثقافي ومتابعاته ومقارعاته لكل ما يحمل شبهة تطبيع أو تنازل. لديه طاقة غريبة على الحركة والسهر والتوزّع في هموم وأمكنة كثيرة. قبل ليلتين، سهرنا وتداولنا في همّنا الثقافي. سألته عن أخبار صعلوك القدس القديمة، الشاعر الراديكالي فوزي البكري. قال: لم يعد يُرى أو يكتب أو يتكلم. لقد حاصروه ونجحوا في تهميشه تماماً (يقصد المثقفين الفلسطينيين الرسميين).

قال.. من المهم أن ينتبه المثقف الراديكالي الفلسطيني لآلية حصاره، فلا يدعهم ينجحون في مسعاهم. إنها ساحة ويتوجب التعامل معها بذكاء وانتباه. فوزي الآن متروك ومنسي ولا يجد مبرراً للخروج من بيته، أو مغادرة أسوار البلدة القديمة. إنه معتكف هناك.

أحنّ إلى زمن الأسود والأبيض. زمن النقاء الوطني والثوري. زمن أن تتكلم وتدفع ثمن الكلمة راضياً. الآن ثمة مؤسسات الـ"أن جي أوز"، وما أدراك ما هذه المؤسسات. ثمة ثقافة العلاقات العامة، ينسجها المثقف المسافر أبداً، وبين كل سفرة وسفرة هنالك سفرة في المابين! ترى أبهذه الثقافة يكون لنا مكان بين الأمم! عن جَد: بئس الكالب والمكلوب! [قصدتها الطالب والمطلوب، فكتبها الكمبيوتر هكذا، لمَ لا؟ إنه أكثر انتباهاً مني!].

وأنا أمشي، صاعداً كتف الجبل، بدأت أدندن ما يشبه الومض الشعري:

[أَهُنا القدس أم هاهُنا الأندلس؟
لا نفس
في شعاب الرئة!

هل أرى القدس؟ لا
إنها: الأندلس
مئة في المئة!]

جنين قصيدة مشوّه، كحال هذه المدينة.
آه يا خالد!

في رسالة قبل يومين كتبت لي: "... أنا أيضاً مشتاق لكما. وكم وددت لو سهرت معكما في القدس أو بيت المقدس كما نسمّيها في الكتب القديمة. وأحسدك أنك بجبل الزيتون. وهو الجبل الذي جاء قسماً بالقرآن، إذ أقسم بجبال ثلاثة، جبل التين وجبل الزيتون وجبل الطور في الآية من سورة التين ...".

أمشي وأمشي. ركبتاي تؤلمانني. وثمة بوادر نقص سكَّر في الدم. أتذكّر خالداً، وأيامنا القليلة في لوديف، فتغيم العينان. آه يا صديقي، كم أودّ لو تشاركنا هذا الهواء الشهي وهذا النور البهيج. أنا مولع بنور النهار في القدس يا خالد. إنما أفكّر الآن بأنك لو كنت معنا لاكتأبنا ثلاثتنا. ربما أنا وأنت، بعيوننا الجديدة، كنّا اكتأبنا أكثر من نجوان. فنجوان شبع من كآبة ما يرى ولم يعد في القوس من نشّاب جديد.

جبل الزيتون، حيث من هنا صعد المسيح إلى مملكة السماء، هو الآن جبل محاصر بجدارهم العنصري، ومرشح للابتلاع.

أفكّر: ماذا لو رأى خالد علَمهم القريب من الفندق في ذلك البيت؟ هذا العلم الكبير المستفزّ، الذي يرفعه مستوطن موتور وسط حيّ عربي بالكامل؟ لربما طالبنا بتغيير الفندق. ولكن إلى أين سنذهب، وسوى الروم خلف ظهرك رومٌ يا صديقي العظيم؟

طيف خالد يلازمني أنّى توجهت. خالد بشعره الطويل وسَمته النبيل، وعينيه الحزينتين جداً، وهيئته، كحكيم وصعلوك عصري حديث. رجل جوهر لا مظهر. واحد من نبلاء عصرنا وثقافتنا.

أسرعُ الخطى للفندق. ثمة بقايا طعام من السحور: جبنة صفراء لذيذة ومربى وزبدة وفاكهة. لو تأخرت أكثر، ربما لن أقدر على المشي بعد. السكر في نزول، وأعرف مضاعفاته الوخيمة.
آكل وأستلقي. أخي يهرب للنوم العميق، معظم الأوقات، كنوع من دفاع أمام الخطر. أحدق في ملامحه، وأهمس: أُعبر عنّا هذه التجربة، أنت يا من هناك: أُعبرْ عنا هذه التجربة. أيها الغامض الملتبس. أعرف أنك مصنوعنا ومخلوقنا، ولكني في لحظات الكرب، أتماسّ معك قليلاً. وأدعو: نجّنا من الشرير لو تستطيع.

من حسن حظ أخي أنه مؤمن. ربما يعطيه إيمانه بعض العزاء. أما أنا فهيهات... أسترجع، في هدأة هذا الصمت والنور الخفيف المتسرّب من وراء الستارة - أسترجع تاريخنا العائلي. خرجنا إلى الدنيا أيتام الأب، وقارعناها، كما يليق بأبناء مخيّم ظهرهم للحائط. وحين راقت لنا الدنيا قليلاً، ها هو الورم الخبيث، يضربنا في مقتل. أخي لم يكمل المسيرة بعد، فأولاده بعضهم في الجامعة، وبعضهم في المدارس. والكارثة لو حدث ما نخشاه، فكيف سيكون حال الأسرة، وهو لم يقطع من الوظيفة إلا سنوات معدودات؟

ابنه الأكبر في السنة قبل النهائية، بكلية الطب في تونس العاصمة. والباقون بعد طريقهم طويل. آمل... آمل أن يعيش، ولو لسنوات تؤهله للحصول على راتب معاش.

مسكين أخي، ومسكين أنا إذ أفكّر على هذا النحو. فما العمل والدنيا، كما عهدناها دائماً، لا أمان فيها لأحد؟ فجأة تنزل على رأسك المصيبة، فلا تعرف كيف جاءتك. وفجأة تنزل عليك المصيبة، فلا تعرف لمن تتوجّه؟ أنت ضعيف وعاجز، وهي بكل صمّائيّتها وبكمائيّتها لا ترحم.
لينقذك الطب يا أخي. لينقذك الإشعاع الذرّي، بعد أن شاخ ذلك المُنادى، وأوغل في شيخوخته.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في مستشفى مار يوسف

أُسس هذا المستشفى سنة 1954، من قِبل أخوية راهبات مار يوسف في حيّ الشيخ جراح. وهو مؤسسة خيرية تُعَالجُ فيه عدة أمراض من بينها أورام السرطان. وفيه مرضى من القدس والضفة الغربية وقطاع غزة. أخذ أخي سريراً في الطابق الثاني، وبدوري دبّرت نفسي في بناية ملحقة تُستخدم لمبيت الموظفين. غرفة صغيرة تضمّ أربعة أسرّة، بنظام سريرين فوقي وتحتي على جانبي الغرفة. حسن، إنه أشبه بفندق متواضع، فندق يفي بالحاجة وأكثر.


* شاعر فلسطيني مقيم في برشلونة، والنص حول تجربته في عام 2009

المساهمون