أربع بنات سقطن كالبلح في الصحراء

أربع بنات سقطن كالبلح في الصحراء

11 نوفمبر 2018
(بوشعيب كادر)
+ الخط -

الأعمى

وُلِدتُ أَعمى
وُلِدتُ عَليلاً كَمَطرٍ احتَبَسَ في غيمَةٍ
وَلم يَسقُط
وُلِدتُ بعينين مُغمَضَتَين
فَرِحتُ كَا يَفرَحُ الموتى
حين يضع أحبّاؤهم باقات وردٍ
على شواهد قُبورِهِم
أنا الأعمى
أَخرَجَني الله جريحاً من جَنّته
لَستُ الضوء
أنا انعِكاس لِضوءٍ آخَرَ
يَفضَحُ العَتَمة
عَينايَ تُشبِهَان أُذني فان غوخ
مَزَّقَتني الصُّور
وَشَرّدَه الصّوت والصُّداع
حين خَرَجتُ مِن السِّجنِ
استَقبَلَتني نَوارِسُ البَحرِ
جاءت بَجَعاتُ البُحَيرة
أعدَدنا لَحناً ورَقَصنا حَتّى الصّباح
وَحين تُمطِرُ السّماء
أَخرُجُ صَغيراً
لا أستعمِل مِظَلّتي
أَرقصُ حتى يُبَلِّلَني المَطر
كُنتُ حين أَفتح باب بَيتي
أَحضُنُ الرِّيح
وَأُقَبِّلُ الصّباح
أَتَخطّى عَتَبة بيتي
وأَقولُ للأَشجارِ أُحِبُّك
قال صاحبي: وكيف تَفعَلُ هذا؟
قُلت عليك أن تعبر الأسلاك
حتى تلتصق بك
وتَخرُج من نَفسِك
وَبَعدَها رُبّما تَمنَحُكَ الغُربَة
بيتاً وَشُبّاكاً في جِدَار
تُطِلُّ مِنهُ على جُرحِكَ وعلى يَمامَة
وحين كَبرتُ
طلبتُ نَفسي فَلَم أَجِدها
فَرُحتُ أَسأَلُ كُلّ من أَلتَقيه
هل في هذه المدينة مَقبَرة للغرباء؟


■ ■ ■


بائعة الحلوى

اسمها أَلبا فلادريس
قالت يوماً إنَّها لَن تسافر،
فَقطْ سَتنامُ على أرضٍ
وتستَفيقُ غداً تحت سماء أخرى
تُشبِه سماءها الأولى في "سيبا"
شيء ما يشبه شَتلَ بذرة بَرّيَة
في تربة جديدة
أَلبا فلادريس
هي نفسها في الأرضين والسّماءين
شجرة الرب
التي استَظلّ بها
حين نزَل من جَنَّته
عِطرُ اللّه قبل
أن يَتمزّق الكون
رَملُ البَحرِ وصَدَفُه
روح الشَّجَر، لونه ورائحَته
زَهرُ النَّبتِ
سَعف نخيل يستظِل تحته غريب
كَرْملُ الحيّ وَجَنّته المَفتوحة
رَجّة الرَّعدِ حين تُبرِقُ السماء
غجَرِية أَعيَتِ الريح قبل أَن تَستريح
وصَلت إلى نيو أرلينز
فَكّت ضفائرها
وانغَرست في الأرض كَشجرة الصُبّار
تَحتَ سماء تحترق
أَلبا فلادريس ليست جارة فقط
هي رائحة المَراعي
رائحة البدايات قبل أن يتعَفّن الكون
ضَوعُ الزَّهر
فسيفساء الألوان
عالم الخرائط الأولى
سليلَةُ الهنود الحمر
في نيو أرلينز
لا يهبط الظلام من السَّماء
بَل يَصعَدُ من المقابر
ومن أرواح شِرّيرة وَسمت الحيطان والبنايات
تحمِله الأرواح الشرّيرة
وتَرفَعه على خَشَب
لَيلٌ
ظُلمَة تُشبِه امرأة
وَضعَت كُحلاً
على عينيها فانتَشَر في وَجهِها الرّماد
ماذا نَفعلُ حين يَتكَثَّف الموت
كَغيمَةٍ في سماء ظليلة
ماذا نَفعلُ والغربان
تَحطّ على أسلاك كهربائية
وتنتظر
المسافة تَجعلُ القاتِلَ بعيداً عن الجرح
بعيداً عن رُؤية ما يُحدِثه الموت
لم تَمت ألبا، ستَنعس حتى قُبيل المَساء
تمّ ترتفع إلى الأعالي
وتمنح القمر بعضاً من جُرحها.


("أَلبا فلادريس" هي عجوز من هندوراس كانت تبيع الحلوى في مدينة "نيوأرلينز" حيث قُتلت)


■ ■ ■


الغريبة

تأتي كلّ مساء
إلى الحانة
تلتَفُّ على نفسها
في أحد أركانها
اسمها شيرين
تأتي إلى حانة السِّنديانة
كما يأتي أيلول
زاحفاً على قدمين ثقيلتين
بعد الكأس الثالثة
ترتخي عضلات وجهها
وتَستسلم لروعة الخَدر
أخبرتني أنّها تحبّ النباتات
تَقتنيها، تُصفِّفها وتعتني بها
قالت شيرين:
إن الصّيف أجمل
مع فراشات معلّقة
على عيدان طويلة
تقصِد زهرة الأوركيد
رقصت أحبّت سافرت قرأت
استمتعت بالموسيقى
وتذكّرت الغريبة
ذات الشَّعر الطويل الأسود
والعينين العَسليتين
التي لم تغادر دارتها
إلا مرّة واحدة
لِتَرجُم بسبعة أحجار
كائناً خرافياً في مدينة الضَّلال والظّلال
سَكَنت في مملكة الظِّل
صاحبَتِ العتمة
واختفت فيها
كالضّريرة
لم تَرَ نوراً غير
الذي أَعْماها
تبدو تائهة العينين
بشرة وجهها
كالتي يحملها القادمون من الحرب
وجهها كتلك الوجوه الخفيضة
التي أَلِفَت الخسارات والهزائم
وعاشت فيهما
لم تَسكن غير السّماء
التي أسقَطتها
عليلة، ضعيفة
لم تسبح في بحرٍ
ولا رأت بجعاً في بُحيرات
لم تشرب قهوة الصّباح
في مقهى
لم تتنزّه في حديقة
لم تَكتب رسائل حُبّ
ولم تَتَلَقّها
دوَّخَتها شمس حارقة
في الرّأس ولم تُشفَ من الصُّداع
لاتَتَكَلَّمُ كثيراً
تَتَكَلّمُ بالمسموحِ لَها بِه
تَتكلّمُ قليلاً
لا تَتَكَلَّم أصلاً
وحين تَتكلّم لا يصمُدُ
وجهُها، يختفي
يَسقُطُ
كما يَسقُطُ الغَرامْ
يسقُطُ على صفحة الماء
وحين تَلْتَقِطهُ
يَصِيرُ عجيناً في يدَيها
نَسِيَت أَنَّ لها وَجهاً
فَغَطّته
يَنفَتحُ مَنبَعُ الحُب تَخرُجُ سَوسنة / فَيَنغَلِق
يَنفَتِح مَرّة ثانية / تُطِلُّ نرجِسَة / فَيَنغَلِق
يَنفَتِح مَرّة أخرى فتُطِلُّ منه نُدبَة
عَلّقت الأم تَمائم على عُنُقها
وحين شَدّت بِجذع الشجرة
لم يخرج المسيح
خرجت أربَع بنات سَقَطن كالبَلَحِ في الصحراء
لم يكن عمرُها يكفي
فجئت لأُتَمِّمَه
كانت تَقول لي دائماً
سَتستفيق غَداً أجمَلَ من الصَّباح
إنّها أمِّي
تُشبهُ كلَّ شيء
إلاّ وجه امرأة سعيدة
كم تمنّيت لو رأيتها صغيرة
حافية القدمين تطارد فراشات الرّبيع
أحياناً على غَيرِ عادَتِها تَفتح شُبّاك النافذة
المُطِلِّ على ساحة يَلعَبُ فيها الأطفال
وهي تَعرِفُ أَن العصافير
كَعادَتِها لن تأتي
وحين تَتَسَلَّلُ رُقاقات أَشِعَّة الشمس
يَجفِلُ وَجهُها كأَنّ إِبرَةً وَخَزَتهُ
كانت كَتِلك الأجساد الواهِنة
الرّخوة أو مِثل أوراق الخريف التي تَهفو
مَعَ أَوَّلِ هَزَّة رِيح
لم أتَعَرّف عليها آخر مرّة زرتها
رَأيتُ وجهاً غَضِناً
ونَفساً مَحروقة
كأنّ جُرحاً نَخَزَها ولم تَبرأ منه أبداً
هل هُناك وُجوه لِلمُنتَصرين
وأخرى للمَهزومين في السجون والمنافي؟
كان وجهُ أُمّي كُلَّ تلك الوجوه
ما عدا المُنتصرة منها
وَجهٌ ظَليلٌ
وَجهٌ مُعتِم
مُفتَرَقُ العَمى والتّيه
وَجهٌ طالِعٌ من الغَيبِ كاليَمَامِ البرّي
وَكُلَّما اقْتَرَبتُ منها
كان الظِلُ يَزحَف إليها
لم تَكن أنثى
كانت وَجهاً لِلغياب كانت
كتِلكَ الحيوانات التي وُجِدت على هذه الأرض
لِتُضرَبَ بالرّصاص
أَو تُنهَش
فتحمل جُرحها وتتيهُ في الفلوات
كُنتُ أستمِع إليها في الظلام
أَقصد كان الظَّلامُ يُصغِي إِلينا
وأنا أَتكَلّم وهي تَستمِع
أقصِد وَوالدي يتكَلّم وهي تستمع
أَعرفُ أَنّي حين أُغلِق باب البيت
سَينتهي كلّ شيء ويموت.


* شاعر وأكاديمي مغربي مقيم في مدينة نيو أورلينز الأميركية، يعمل مديراً لقسم الدراسات العربية بجامعة تولين (Tulane) ويدرّس الأدب الحديث فيها. من أعماله مجموعة شعرية بعنوان "رسائل نيو أورلينز" صدرت عن دار "لرمتان" في باريس (ترجمة منال بوعبيدي) وتدور قصائدها حول تجربته الحياتية في المدينة الأميركية المعروفة بثقافة موسيقى الجاز، وهو القادم من ثقافة عربية ومغربية بالغة الغنى والكثافة.

المساهمون