المسافة من "تعارف" إلى "كارناج"

المسافة من "تعارف" إلى "كارناج"

09 مايو 2019
من العرض (كريم عامري)
+ الخط -

منذ العنوان، وهو عتبة التلقّي الأولى، تُربكنا مسرحية "تعارف" حين لا نجد تطابقاً بين العنوان بالعربية ونظيره بالفرنسية "Carnage" (مجزرة)، رغم أن كليهما يحضر على الملصق الدعائي، متداخِلَين وكأنهما توأمان. سنعرف لاحقاً أن هذا الخيار في العنونة منسجم مع مضمون المسرحية التي تُعرض منذ الشهر الماضي في فضاء "تياترو" بتونس العاصمة.

ينطلق العمل بأربع شخصيات تظهر من وراء ستار وهي تتناقش بعصبية حول صياغة محضر يتعلّق باعتداء طفل على أحد أترابه. سنعرف، بعد قليل، أن الشخصيات الأربع هم والد ووالدة كل طفل، وقد قرّروا أن يتعرّفوا إلى بعض ويتحدّثوا "بطريقة ودية ومتحضرة" عن أسباب ما جرى. لكن بمرور الوقت، وتوفير الوضعيات لاحتكاك الشخصيات ببعضها، سيُفضي هذا "التعارف" إلى "مجزرة"، أو كما يقول تقديم المسرحية "تسقط أسنان الأبناء، فتسقط أقنعة الأولياء".

العرض الذي أخرجه غسّان حفصية مقتبس من عمل للكاتبة المسرحية الفرنسية من أصول إيرانية، ياسمينا رضا، وكان عنوانه الأصلي "إله المجزرة" (2007). ليس الاقتباس التونسي أوّل عودة إلى نص رضا، إذ نجده في صياغات كثيرة في إسبانيا وكندا وسويسرا وروسيا وغيرها، إضافة إلى أنه انتقل إلى شكل فنّي آخر حين أخرجه رومان بولانسكي في فيلم سينمائي بعنوان "مجرزة" سنة 2011، وقد نقل عوالمه إلى المجتمع النيويوركي.

هكذا، تبدو الحبكة التي اقترحتها رضا قابلة للذوبان في أكثر من سياق معاصر، وهل كان ذلك ممكناً لولا راهنية الأسئلة التي يطرحها النص وعمقها، خصوصاً أنها لا تستدعي مسألة العنف من خلال إحالات جاهزة من الواقع أو عبر طرح فكري، بل تقاربها كإشكالية تذوّبها في حكايات بسيطة، متخذة لها مدخلاً انطلاقاً من السلوكيات والأخلاقيات المتعالية عن العنف، تلك التي يحاول الناس أن يتزيّنوا بها. فإذا كان السؤال الكبير الذي طرحه علماء النفس للدراسة هو: "هل العنف فطري في الإنسان أم مكتسب؟"، فإن السؤال في هذا العمل يُصبح: "إلى أي حدّ يستطيع الإنسان إخفاء عدوانيته؟".

حول اختيار هذا النص، يقول مخرج المسرحية في حديث إلى "العربي الجديد": "كان في البداية اقتراحاً من الممثّلين، وقد وجدنا فيه محاكاة للتوتُّر الذي يعيشه التونسيون منذ سنوات، وبات يتجلّى في كل الفضاءات... في الطريق العام وفي العمل، وحتى في أماكن الترفيه. ومن جانب آخر، شدّني أنه نص ذو مقولة كونية كما أنه محليّ الطابع، ويمكنه أن يأخذ ملامح محلية متعدّدة ومنها الصياغة التونسية".

مسرحية "تعارف" هي خامس اقتباس يشتغل عليه غسّان حفصية بعد نصوص لكل من داريو فو، وهارولد بنتر، وماتيه فيزنياك، فما الذي يجذبه في النص الأجبني؟ يجيب قائلاً: "أبحث عن قراءات عميقة في الإنساني والاجتماعي. ولعلّ أحد المعايير التي تجذبني هو أنها نصوص من السهل الممتنع، كما أن الاشتغال عليها يمثّل لي ما يشبه تمريناً على الكتابة المسرحية في واقع عربي نفتقد فيه نصوصاً جيّدة. أعتقد أن الاقتباس يساعدنا متى لم يكن هناك مشروعية كي نكون مؤلّفين".

لكن المخرج التونسي يشير إلى أن "من الضروري أن ينسى الجمهور كل أثر للاقتباس، أي أن يذوب النص في محلية جديدة، وهو أمر ليس بالهيّن لأنه من الضروري أيضاً الوفاء للمؤلّف الأصلي".

تبدو الشخصيات العنصرَ الأساسي لبناء الإشكاليات التي يطرحها العمل، إذ إننا حيال تركيبة خاصة توفّر المناخ والمساحة للسقوط التدريجي للأقنعة؛ فوالدة الطفل الضحية كاتبةٌ وناشطة حقوقية (أداء: أميرة خليفي)، أمّا زوجها فهو تاجر تجهيزات منزلية بالجملة (عصام العياري).

تقف الشخصيتان، منذ البداية، على طرفي نقيض في رؤيتهما للحياة، فالمرأة صاحبة آراء راديكالية، بعضها يبدو جاهزاً ستخلخله مواقف كثيرة، والرجل في المقابل تحكم شخصيّته اللامبالاة، والتي وإن بدت عنواناً من عناوين تجنّب العنف، إلا أن وضعيات المسرحية ستجعل منها مدخلاً من مداخله.

بالنسبة لأبوَي الطفل المعتدي، فنحن إزاء زوجين من أصحاب مهن القانون (أداء: ليلى اليوسفي وزياد العيادي). يمكن هنا التوقف قليلاً عند الأب الذي طالما قطعت رنّات هاتفه حبل الحديث في المسرحية، ومن خلالها نتعرّف على طرق تعامله مع الأمور في حياته العملية، حيث يسوّغ الاعتداء والتحيّل والانتهازية لموكّليه، ثم سرعان ما يعود إلى قواعد اللياقة في "جلسة التعارف".

مع هذه المتناقضات التي وُضعت جنباً إلى جنب بعناية محكمة، يمكن أن نشير إلى دقة مقادير الفكاهة في العمل، فليست "تعارف" مسرحية كوميدية على رغم الحضور المكثّف للسخرية فيها، والتي تنبع أساساً من الوضعيات التي تجد الشخصيات فيها نفسها، فتتحوّل تناقضاتها إلى مولّد من مولّدات الضحك دون الخروج عن النص/ الأطروحة.

هذا الخيار في التحكّم بالفكاهة، يحيلنا إلى بعد آخر للمسرحية هو التلقّي الجماهيري، فكأن المسرحية قد نأت بنفسها عن الانتظارات الأكثر سهولة، والتي قد تُهدر ما هو أثمن، كأن يعكس المتفرّج الأسئلة التي تطرحها المسرحية على نفسه... ألا يخفي الضحك الحقائق في كثير من الأحيان، خصوصاً في زمن يجري فيه تعويد الجمهور على الاستهلاك الكوميدي للثقافة عبر التلفزيونات خصوصاً؟

ونحن على مشارف نهاية العرض، يصل الصدام بين الشخصيات إلى ذروته، ينتقل الصراع الكلامي إلى مشاحنات جسدية، فلا يختلف الآباء عمّن هم أوصياء عليهم. وإمعاناً في السخرية، تأتي مكالمة هاتفية نعرف من خلالها أن الطفلين قد عادا للعب معاً، وكأن كل ما عشناه خلال المسرحية ليس سوى قوس فُتحت ليُظهر الإنسان دون أقنعةِ مواقعه الاجتماعية وشهاداته العلمية وادعاءاته حول القيم والأخلاق.

وهي تفعل ذلك، ربما تذكّرنا مسرحية "تعارف" بكتاب "تشريح التدميرية البشرية" لعالم النفس الألماني إريك فروم، وكان أحد النقاد قد اعتبره "محاولة لكي يستعيد الإنسان صوابه"... محاولة ينبغي أن تستمر بقدر استمرار نوازع العنف والتدمير.

المساهمون