"ترى البحر": الإسكندرية التي لا نعرف

"ترى البحر": الإسكندرية التي لا نعرف

23 مايو 2018
(الإسكندرية، تصوير: محمد الشاهد)
+ الخط -

منذ عددها الأول، ظهرت مطبوعة "ترى البحر" بصورة مختلفة من حيث الشكل والمضمون والجمهور المستهدف؛ فاختيار كلمة مطبوعة بما لها من معنى عام، جعلها قادرة على تجاوز الصورة التقليدية للمجلات، والجرائد، والدوريات الثقافية السائدة في مصر، كذلك تركيزها على المزج بين الأدب والأنثروبولوجيا، وتسليط الضوء على التغيّرات التي تعيشها مدينة الإسكندرية على كافة المستويات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والمعمارية، منح المطبوعة مزيداً من الزخم.


مدينة لا ترى البحر

"تشغلنا الإسكندرية التي نعرفها كما تعوّدنا على صورتها في كتب الجغرافيا و"كروت البوستال" وكل ما وقعت عليه عيوننا من كتابات وأفلام وغيرها. شريط طويل يمتد بامتداد الساحل المتوسطي، وتتلاقى أطرافها مع البحر في كل بقعة، لكن هذه الإسكندرية - التي مازال الكثيرون يروّجون لها كما ألفوها - هكذا، مدينة سياحية ليست الإسكندرية التي نعيشها، والتي أصبحت - بدون مبالغات مجازية - مدينة لا "ترى البحر"!"؛ هكذا تقول الشاعرة أميمة عبد الشافي من فريق تحرير "ترى البحر" في حديث إلى "العربي الجديد".

وتضيف: "تنطلق المطبوعة من هذا التناقض الحاد بين ما نعيشه وما نقرأه عن المدينة الساحلية العريقة، عن واقع الفن والممارسات الثقافية، عن العمارة التراثية والحياتية بها، عن التحولات اللازمة بحكم مرور الوقت، والتحولات المجرمة بدافع الطمع ونكران القيمة، ونطمح لخلق صورة جديدة وحقيقية للإسكندرية من خلال كتابات وفوتوغرافيا معنيين بواقع المدينة".

أكثر ما يميّز المطبوعة الصادرة عن مؤسسة "جدران للفنون والتنمية"، هو ذلك الحس النقدي اللاذع والساخر، المدفوع بروح شابة مغامرة، تعيد تفكيك كل الصور النمطية عن الإسكندرية التاريخية والمعاصرة، كذلك الاهتمام اللافت بالصورة الفوتوغرافية، ليس فقط بوصفها مرآة للنص المكتوب، ولكن بما تحويه من قيمة جمالية خاصة.


الكولونيالية والكوزموبوليتانية

طالما كانت صورة الإسكندرية "الكوزموبوليتانية" واحدة من الأساطير المؤسسة للمدينة، وللمخيال الجمعي لعدد كبير من المثقفين والطبقة الأرستقراطية المصرية، لكن في السنوات الأخيرة، تعرضت هذه الصورة الحالمة والغارقة في النوستالجيا، إلى موجات متتالية من النقد، وطرحت العديد من الأسئلة حول مدى واقعيتها، وهل كانت الإسكندرية مدينة "المواطنة العالمية" بالفعل ورمز التسامح والتعايش والسلام، أم كانت مدينة ذات بنية كولونيالية، تهيمن عليها النخب الأوروبية الغنية، بينما يعيش باقي المجتمع السكندري في خدمة هؤلاء السادة.

لا تقدم "ترى البحر" إجابات محددة ويقينية، عن مواضيع كهذه بقدر ما تفتح الباب للتساؤل والبحث، فضمن عددها الأول، انتقد المترجم خالد رؤوف في مقال بعنوان "داء الحنين .. داء حماده" محاولات البعض ترويج سردية أحادية للإسكندرية، تحتفي بالوجه الأوروبي في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، مهملة تماماً الظلم الاجتماعي الذي تعرّض إليه المصريون.

بينما في بحث بعنوان "الإسكندرية وروائحها" حاول المؤرخ خالد فهمي، التنقيب عن صورة الإسكندرية العربية، تلك المساحة الكبير المستبعدة من الصورة المثالية للمدينة، مشيراً إلى أن "الغالبية العظمى من سكان المدينة، أي "العرب"، كانت غائبة بشكل واضح عن تاريخ المدينة الحديثة، وعندما تم أخيراً تقديم العرب في سردية المدينة، كان ذلك لإبراز عدم انتمائهم إليها، أو لتأكيد أنهم مسؤولون أكثر من غيرهم عن التردي والانهيار اللذين أصابا المدينة".


أين تقع الإسكندرية

لقرون طويلة ارتبطت جغرافيا الإسكندرية، وحياة سكانها بشريط البحر الساحلي، لكن في العقود الثلاثة الماضية، تغيرت هذه الصورة بشكل كبير، مع الزيادة السكانية الهائلة، وموجات الهجرات المتتالية من الريف، والتمدد العمراني بعيداً عن البحر، وظهور عشرات الأحياء العشوائية المعزولة المكتظة بمئات الآلاف من السكان مثل "الحي الصيني" و"أبو خروف" و"الحرمين".

في العدد الثالث من "ترى البحر"، وعبر دراسة مطوّلة بعنوان "أين تقع الإسكندرية"، يطوف الباحث الأنثروبولوجي الفنلندي صامويلي شيلكه داخل أحياء الإسكندرية الشعبية، محاولاً رسم صورة للإسكندرية المعاصرة والتغيرات الهائلة التي تعيشها المدينة، ويشير إلى أن الإسكندرية المعاصرة أصبحت محاصرة بين صورة "المدينة" وواقع "المدينة النقيض".

يوضّح شيلكه أن صورة "المدينة" يمكن رؤيتها من خلال أحياء وسط البلد القديمة، أما واقع "المدينة النقيض" فيتمدد داخل شريان الإسكندرية ليصنع عالماً موازياً ويرسم صورة مغايرة طالما تم تجاهلها من قبل وسائل الإعلام والمثقفين. "المدينة النقيض هي في الحقيقة أغلب المدينة (..) الإسكندرية اليوم هي مدينة ذات تعدد، لكنها ليست مدينة تعددية".

ويضيف شيلكه: "الإسكندرية كمدينة حدد البحر موقعها بشكل أسطوري، يحددها كذلك وجود حدود تقع مباشرة في قلبها المعماري، إن الحدود الدولية المتمثلة في البحر الأبيض المتوسط تتوازى معها الحدود الطبقية التي تمتد بين الأحياء البحرية والداخلية، وبين الضواحي الكثيرة المقسمة طبقياً والممتدة على نحو أبعد نحو الداخل. إن الحكي عن ما هي الإسكندرية وأين تكون يتضمن عادة الحكي عن علاقات الغرباء والآخرين، سواء تم إضفاء الرومانسية عليهم باعتبارهم ممثلين للعصر الكوزموبوليتاني، أو عوملوا باحتقار باعتبارهم ممثلين للمدينة المضادة في هلال الضواحي".

المساهمون