"فتوحات شاردة" لـ فهمي جدعان.. تأملات أربعة عقود

"فتوحات شاردة" لـ فهمي جدعان.. تأملات أربعة عقود

16 ابريل 2019
(فهمي جدعان، العربي الجديد)
+ الخط -
تنطلق معظم كتابات المفكّر الأردني الفلسطيني فهمي جدعان (1940) من الاشتباك المباشر والفعّال مع التصوّرات والمقاربات الفكرية التي تتشاطر معه موضوع بحثه، حيث يذهب في تمثّل كلّ منها واستخلاص أبرز ما يصلح منها للنقاش اليوم، ثم يؤسّس لجدله الذي يبنيه بامتداد مع فكرة هنا وتناقض مع أخرى هناك.

وربما يحيل تصالح صاحب "مرافعة للمستقبلات العربية الممكنة" (2016) مع الواقع الذي يبحث في مآزقه ويدفعه إلى الحوار مع ما يستجد من معرفة واجتهاد وقول ورأي، إلى دعوته لوضع حدّ لما سماها حالة "الاغتراب" التي تتلبس الكاتب والمثقف والفيلسوف والمفكر والعالم.

دعوة ضمّنها في كتابه "فتوحات شاردة لأنوار عربية مستدامة" الصادر حديثاً عن "دار الأهلية" في عمّان، والذي يراكم فيه جملة تأملاته خلال أربعين عاماً من الدرس والبحث والتأليف وربما يكون في مقدّمتها تأكيده على ذلك المركب الأخلاقي المفتقد في الحياة العربية المعاصرة الذي يشكل ضرورة لقيام التنمية ودولة العدالة.

يوضّح جدعان في تقديمه اختياره عنوان الكتاب بمفرداته الثلاث: فتوحات، شاردة، مستدامة، فالأولى تعني له الكشوف والمطارحات المعرفية أو الفكرية، والثانية تحيل إلى الأقوال أو المحاضرات التي عُرضت أثناء انشغاله بمشاريع فكرية أو بحثية مركزية وباتت بعيدة المنال وغير متوافرة للجمهور، والثالثة تشير إلى أن ما يرجوه من إذاعة هذه الأقوال من حيث إنها تطلب "الاستزادة في مكافحة الجهل غير العالم المتأصل في العالم العربي" و"استمرار النضال".

يبدو متقصَّداً في هذه المطارحات أنها بدأت وخُتمت لتثبيت الأصالة كغاية لا غنى عنها، من خلال مراجعته التجربة العربية التاريخية وأشكالها السارية في الفكر والدين والسياسة والفن والأخلاق والعلم، بتحليل نماذج أساسية بدءاً من الظاهرة القرآنية وما اقترن بها من "ثورة ثقافية" جسّدت فعلاً أصيلاً، ثم الانقلاب السياسي الأموي الذي كان فعلاً أصيلاً من وجه وبائساً مجسّدا للقبلية المشبعة بالإغراءات الدنيائية الخائنة للإيتوس الأخلاقي - الديني من وجه آخر.

يتتبع صاحب "خارج السرب - بحث في النسوية الإسلامية الرافضة وإغراءات الحرية" (2010) أبرز الفضاءات الفكرية والأدبية التي تجلّت فيها الأصالة في التاريخ الإسلامي، ومنها مبدأ العدل الاعتزالي، وفي استنئناف الفعالية العقلية والعلمية الهلّينية في الحركة الفلسفية، وفي التجديد الشعري في العصر العباسي، ونظرية المقاصد في حقل الفقه وأصوله، وفلسفة ابن خلدون المبتكرة في العمران البشري.

ثم يعود في فصل "مبدأ قاعدة مطلقة لأنوار عربية مستدامة"، وهو نص المحاضرة الافتتاحية التي ألقاها في "معهد الدوحة للدراسات العليا" في أيلول/ سبتمبر 2018، إلى أنه يتوجّب أن "توّجه أنظارنا إلى ما تحت أقدامنا وأن نتوخى أولاً وآخراً إبداع فلسفات خاصة مبتكرة، وعلم اجتماع أصيلا...". حيث يخلص إلى أن ذلك يقوم على ركنين: البحث العلمي الأصيل الخلاق، و"النسج" على مبادئ ومقاصد الحضور الفاعل والإصرار على الخروج من أتون الكهف.

ولا يقرأ جدعان اللحظة الراهنة من دون النظر إليها كامتداد طبيعي لأربعة عشر قرناً مضت، ليبني تقييمه عبر ملاحظة أن المسار الحضاري العربي أدرك نهايته التاريخية بانهيار "الدولة الموحّدة" وانسحاب "المدينة الجامعة"، وأن التطوّرات التاريخية الحديثة تجاوزت مساحات واسعة من التراث، ما يعني امتلاك نقد معرفي معمّق لنظام القيمة الحاكمة في جميع القطاعات، وصولاً إلى مظاهر الحياة اليومية العامة الساذجة.

يشدّد جدعان، هنا، على تنظيرات سابقة له حول أن التغيير من أجل المستقبل لا يقف عند النخبة، حيث يتطلّب تشكيل نظام جديد من القيم والثقافة يرتبط بمرحلة التربية المبكرة للطفل وبرمجته الوجدانية. وكما في حديثه عن الوضع الحضاري، يستعين بأخلاق الواجب المرتبطة بالمنافع والمبادئ بوصفها شرطاً لتحقيق التنمية.

حديث يتصل بمراجعته المعمقة كذلك للطروحات حول الأخلاق في تاريخ الإسلام بتمظهراتها الفلسفية والكلامية والفقهية والصوفية، مقابل ذلك لم يحظ الفكر الأخلاقي في العصر الحديث باهتمام خاص، لذلك فإن النظر إلى هذه المسألة يستوجب الخروج من المطلق الذي اتسمت به الأدبيات التراثية، والذهاب نحو إنفاذ مدونة سلوك أخلاقية صريحة معزّزة بالقانون وبسياسات حقيقية مشخّصة في الدفاع الاجتماعي.

اقتراح يتأتّى في سياق اجتهاده للخروج من الجدلية بين أخلاق دينية إلهية وبين أخلاق عقلية إنسانية، لا العودة من جديد إلى "إحراج أوطيفرون"؛ المحاورة الشهيرة بين أفلاطون ورجل الدين أوطيفرون التي دفع بها الفيلسوف تساؤله الرئيسي: ما الذي يؤسس القول بأن هذه القيمة الأخلاقية خير أو شر؛ العقل (الإنساني) أم الدين (أو الله)؟

من جهة أخرى، يتفحّص جدعان، عند مقاربته للعدالة، أبرز النظريات الكبرى الراهنة في الفكر الغربي المعاصر: النظرية النفعية، والمساواة الليبرالية، والليبرتارية، والماركسية، والجماعَتِية، والنسوية، وكذلك العدل الكلامي والفلسفي في التراث ليصل إلى أن المبادئ والمقاصد هي التي ينبغي أن تُطلب، لا في موضوع العدالة فقط إنما في جميع الموضوعات الأخرى.

ويعتقد ان نظرية "المصلحة" التي أخذ بها فقهاء المقاصد يمكن دمجها في "نظرية عربية في العدالة الاجتماعية، أركانها الأساسية: المنفعة الضاربة في الخير العام، وليبرالية تكافلية حافظة للحريات الأساسية والمساواة في الفرض وفي توزيع الخيرات، وتعزيز القواعد الحامية للهوية.. في إطار الجمع بين خير الفرد وخير الجماعةـ وتعزيز مبدأ الخير العام، وإرساء بنيان المساواة النسبية بإبداع قراءة تأويلية مساواتية للنصوص الدينية".

في معظم الموضوعات التي يناقشها في سياق طرحه أسئلة النهضة المنشودة، سواء في علاقة الديني بالسياسي أو التنمية أو الأخلاق أو العدالة أو الحرية أو غيرها، لا يبتعد جدعان عن أهمية إيلاء المدوّنة التراثية والنص الديني قراءة تأويلية مقاصدية تضع الأحكام الفقهية في حدود ظروفها التاريخية، لكنه يضيف إلى ذلك اعتماد مبدأ المصلحة المرتبطة بإقامة العدل الذي "أينما ظهرت إمارته فثمّ شرع الله".



المساهمون