كبرنا يظللنا الأسود

كبرنا يظللنا الأسود

18 مارس 2018
إبراهيم الجوابرة/ فلسطين
+ الخط -

ما لا أفتقده حتماً في صباحات العيد، في كل الأعياد، هو رائحةُ الكعك المخبوز؛ تلك التي لم أعتَد شمّها يوماً في بيتنا بقرارٍ اتّخذته أمي بعد موتِ أبي بكامل حزنها ووقوفاً طويلاً عند "رُملتها"، فأمي التي بقيت ترتدي الأسود لأكثر من ستة عشر عاماً، حداداً على رحيله في الوقت الذي لم أكن أتجاوز فيه سنة واحدة؛ لم تكن تخبز الكعك في العيد ولا توزّع الشوكولا والمعمول الجاهز، لم تكن تقبل أي "عيديّات" حتى من إخوتها، واكتفت بالقهوة السادة تلك التي ارتبط مظهر العيد الوحيد برائحتها.

قالوا إنها ظلّت تشتري لي ملابس سوداء وغامقة حتى السابعة من عمري.
وكان من جَلَدها على الحزن وقسوتها ربّما، أنها إن لم تجد ملابس قاتمة تليق بطفلة في السابعة، فصّلت لي ولأخواتي المراهقات عند خيّاط الحي ما يليق بحزنها هي لا نحن... فكبرنا يظلّلنا الأسود حيث لا ألوان أخرى نعرف أو نرتدي.

أحاول أن أتخيلني طفلة في السادسة مثلاً بفستان بكشكش أسود وربطات شعر سوداء فلا أستطيع. ولا صور لدي لتلك المرحلة أستعين بها... ولهذا أظنّني لا أستطيع أن أتذكّر طفولتي.

في إحدى جلسات العلاج، سألني طبيبي عن طفولتي فقلت له أني لا أذكر منها شيئاً، الآن أظنني أفهم لماذا، فقد كانت قاتمة قاتمة وبلا ألوان.
لا يعبّر منها ألوان الطيف ولا الذكريات ولا ينزّ منها إلا الدمع.

ولذات السبب أظنّني ما زلت طفلة في الثلاثين، ترتدي فساتين قصيرة وملوّنة، تربط شعرها القصير إلى ضفيرتين وتعقد آخرهما بربطات صاخبة الألوان، تلبس فساتين ملوّنة وقصيرة على أحذية رياضية خفيفة ووردية، وكثيراً ما اعترض حبيبي وأراد فساتين تبرز أنوثتي، وكذلك كثيراً ما وبّخني أخي لأنني وطفلته نرتدي نفس الستايل، لم أستطع إلى الآن أن أكبر وأن أرتدي ملابس رسمية وكعوباً عالية، فأنا ما زلت أشفق على الطفلة التي كنتها، وكان الأسود لون طفولتها.


■ ■ ■


كنت أراها، أمي، في صباح العيد بكامل سَوادها، تُجلسني في حجرها وتغني، -كنت أظنّ أنها تغني- تردّد كلاماً حزيناً غير مفهوم.. (يَمّا ويا يَمّا ويا ما أحلى أساميهم وراحت الأسامي وظل خاطري فيهم).. أنا المحرومة من اللّون في طفولتي، ورثتُ عن أمي حزنها القاسيَ، و"رملتها" الوفيّة.. وبقيت حتى الآن أظنّ أن (.. يا دار يا ملعون أبوك.. راحو وخلوني وخلوك) هي تراويد العيد الحقيقية.. وأن الأطفال/الكبار الحمقى فقط من يفرحون بالعيد ويُغنّون (بكره العيد وبنعيّد..).

كبرت ببهجة ناقصة، وبنظرة دونية قاسية للفرح وتفاصيله.
أحترف التعامل مع أحزاني وتوترني البهجة والألوان.
أفتقد أمّي وحزنها وتناويحها صباحات العيد، كل عيد. وما لا أفتقده حتماً هو رائحةُ الكعك المخبوز؛ تلك التي لم أعتَد شمّها يوماً في بيتنا.

بعد أن ماتت أمي، استعاضت زوجات الإخوة عن القهوة المغلية صبح العيد بالقهوة سريعة التحضير، المضاف لها حبّات من القرنفل والهال، وظلّت رائحة القهوة هي رائحة العيد وأمي.


* كاتبة فلسطينية أردنية

المساهمون