لماذا لا تترجمون أم لماذا لا تطبّعون؟

لماذا لا تترجمون أم لماذا لا تطبّعون؟

17 يونيو 2019
(مقطع من "حنظلة في مسيرات العودة"، ليلى الشوا، 2019)
+ الخط -

هناك من يفتعل جدلاً من أجل أن يتموقع أو يخدم موقفاً أو يبرّر فعلاً، وهناك من يفتعله ليكدّر فضاء النقاش ويبتعد به عن الواقع، وهناك من يُعيد تدوير جدلٍ لكَي يبقى في مجال الضوء والاهتمام، حتى ولو كان عليه أن يبيع بأبخس ثمن.

لا يُمكن فهم ما كتبه الكاتب الجزائري أمين الزاوي قبل أيام، في أحد المواقع العربية التي نبتت مؤخّراً، حول ترجمة "الأدب الإسرائيلي" إلى اللغة العربية ما لم نعد إلى مساره لقراءته بعين نافذة وخلفيات تساعد على إجلاء بعض ما يعتمل في عقل هذا الكاتب الذي يدفع بكل قوّته كي يُقال عنه: "انظروا، لقد فعلها السيّد الروائي وتجرّأ على ملامسة المحرّمات وخلخل المسلّمات".

يأتي السيّد الروائي من منطقة كتابةٍ حاولت أن تقطع مع ما كان سائداً من أدب يصفه بأنه اشتراكي وتقليدي ومحافظ، ويرى بأنه معتلّ وغير ناضج. هكذا، راح الزاوي يكتب أدباً منجرفاً نحو هوس المكبوت الجنسي، وتطغى على كثير منه العقد والتحلُّل والمشاهد البورنوغرافية الكاسحة؛ حيث تقاسم فراشها الأمُّ والأخت والخالة والعمّة وغيرهنّ من المحارم.

يبدو أنّ ما يكتبه الزاوي، في معظمه، لا يخرج عن تلك النظرة الاستشراقية التي لا تنظر إلى العالم العربي الإسلامي إلّا من ثقوب الأبواب وما يحدث في غرف "الحريم" وما يخفيه عالم الجسد الفنتازي الذي يستعذب الاستـشراق في الكشف عنه، ويستميت في تقديمه على طبق مخملي لقارئ آخر خاص يحصره داخل هذه البؤرة وهذا الأفق فقط.

انزاح الكاتب في معظم أعماله الروائية إلى هذا المسعى... تربّت لغته في كنف هذه الروح؛ حيث الولع الطاغي بتدمير القيم المتأصّلة في وعي ووجدان المجتمعات العربية الإسلامية، وحيث الانصياع إلى ما يُطلَب وما يُؤمر به كي يحجز مكاناً وحضوراً وتاريخاً، ولو على حساب الهوية والكينونة والأرض... على حساب القلق الحقيقي والتاريخ والحرية والذاكرة.

حتّى وهو يكتب بالفرنسية، في انتقال عليل وواهن واختيار مرتّب ومزهو ببلاغة فرنسية لا طعم ولا رائحة فيها، فإن نشره لأيّ كتاب لا يجري إلّا وفق شروط أبوية قاسية - وهو كالكثير من المثقّفين من أشدّ دعاة قتل الأب ـ تفرضها دور النشر الفرنسية؛ حيث تُعاد صياغة كتابته في مخابر فاحصة طاحنة لأساليبه، كي يخرج نصّه مقولَباً ومحكماً نحوياً بالنقاط والفواصل والجمع والمفرد والكسر والضمّة حسب معاييرهم وقوانينهم وفلسفتهم، وببذلة تليق بالقراءة دون الإخلال بمعاني ما يُراد للذين يدخلون المحفل وينتسبون إلى المربّع الأثير للفضاء الخاص، وهُم على استعداد تامّ للرضوخ، ويمتلكون جينات الولاء والطاعة.

يتعاطى الزاوي مع الوقائع والأحداث في الجزائر بما يشبه القنص الممنهج والمدروس، يرافق موازين القوى حين تطلّ برأسها ويأخذ وقتاً أطول لكي يغذّي طموحاته الكثيرة والمتشعّبة من يوم أن كان على رأس أحد "قصور" الثقافة، مروراً بروايته المفكّكة حول محاولة اغتياله أثناء عشرية الإرهاب والدم، ثمّ عضويته وانتمائه الغامض إلى البرلمان الأوروبي للكتّاب الذي أُسّس خصّيصاً للدفاع عن سلمان رشدي، ثمّ وصوله إلى إدارة "المكتبة الوطنية" وتعاظم رغباته في بلوغ سدرة منتهى الحكم؛ حيث رأى نفسه الأجدر بالتربُّع على وزارة الثقافة.

لعب لعبةَ أدونيس الشهيرة سرياً مع جهات عليا في الدولة آنذاك من دون المرور على صاحبة الشأن (وزيرة الثقافة حينها خليدة تومي)، اعتقاداً منه بأنها خبطة العمر ليلتفّ حولها، ولكنّه فشل في تقديم نفسه بديلاً لها فأخرج من الباب الضيق، ثمّ أدار لعبة أخرى في العلن مع مريديه، وهذه المرّة قدّم نفسه ضحيةً للكلمة الحرّة والفعل الثقافي الحر، وهيّج حوله القاصي والداني، وأُصيب المشهد بغشاوة بعيداً عن الحقائق.

في مقاله الأخير، يصطفّ الروائي مع وفائه المبتكر حسب الظرف والهمّة والطلب، يثب إلى موضوع مُضحك وواه ومستهلك ومتجعّد، متوهّماً أن القارئ كسول أو غبي أو جاهل بغيره؛ إذ يتساءل "لماذا يخاف العرب من ترجمة الأدب الإسرائيلي، أو بعضه على الأقلّ، إلى لغتهم (يستعمل كلمه "لغتهم" بدل أن يقول كلمة "اللغة العربية" التي يكتب بها، وكأنه ينظر إليها بتعال؛ فهو الكاتب باللغة الفرنسية)، حتى تكون مادة للباحثين والجامعيّين والقرّاء، مع أن غالبية، إن لم أقل جميع الأنظمة العربية، لها قنوات اتصال دبلوماسية رسمية أو غير رسمية مع دولة إسرائيل؟".

ثمّ يحاول الزاوي تحديد فوائد هذه المهمّة الممكنة ما دام الكل يفاوض ويتحالف علناً وتحت الطاولة مع "إسرائيل"، وبقي فقط أن نترجم ما يُكتب فيها من أدب حتى نفهم جيّداً من هم، ونعرف كيف يجب أن نتعامل معهم؟

ونعرف فصلهم وأصلهم ونصادق صديقهم ونعادي عدوّهم. فخلف هذا الأدب يمكن لـ "السلام" أن يبسط جناحه وتكفّ الآلة الصهيونية الجهنمية عن القتل والحصار اليومي للشعب الفلسطيني، ولن يبقى هناك صراع متأصّل ونمسح كل سنوات المقاومة. وحتى نطمئن أكثر لما يبشّر به الروائي، فهناك - كما كتب - "أدباء عرب إسرائيليّون" يضع بينهم إميل حبيبي وسميح القاسم وآخرين من أبناء فلسطين المحتلة عام 1948، وستعيننا ترجمة "الأدب الإسرائيلي" إلى العربية في الاسترشاد بالطريق والسبيل: "لندخل التاريخ فنعرف الجميع ونقرأ الجميع، من إخوان وأصدقاء وخصوم وأعداء، أو أن نبقى على حافة الطريق، القطار يمشي ونحن نسبّ بعنتريات لغوية، أو نتباكى على الماضي تارة وعلى أنفسنا تارة أخرى".

لم يخرج ما قاله الكاتب في مقاله وما أضمره عن سياقات ممجوجة يكرّرها العديد ممّن يلهثون وراء شهرة ناقصة ومفضوحة لا تستند إلى مشروع واع ومتبصّر بالحقائق وبالتاريخ القريب والبعيد؛ فمهما تقرّبت من العدو لن تنال غير الوهم والخضوع، ومهما تعرّفت عليه سيبقى في خانة عدوك الذي يحذر منك وممّا تفعله مهما كانت أريحية روحك وشساعة تسامحك وسعة قلبك للحوار.

السؤال الأهم: هل سيقبل هو بك، أنت المتواطئ والمخذول والتابع والخانع لأنظمتك الفاسدة القمعية وحكّامك الطغاة؟ هل سيرتاح لك وأنت تعرض عليه أدبك و"فهامتك" وشطارتك؟ هل ستقنعه بروعة شعرك أو رواياتك وهو يراك متزلّفاً ومتمسّحاً وتحمل مغالطات تاريخية في روحك وعقلك وهندامك وأكلك وشربك؟ هل ستثيره كتاباتك وهو يقرأ أنك مجاور للكبت والعقد والرداءة ومحبّ للقمع والتسلّط؟ هل سيطمئن لك وأنت تحتقر قضايا شعوبك؟

ما لم يقله الكاتب في مقاله يفضحه الواقع العربي... فغالبية من يتعالون على الثقافة العربية وقضايا شعوبها، مجرّد منتفعين وغشّاشين يتعذّر إصلاح أعطابهم وعطالة أرواحهم، وهم في أحسن أحوالهم يهتفون بحياة العسكر والمال، وينتظرون إشارات الرضى ليجلسوا في أحضانهم.

لا ينفتح مقال الكاتب على أي جديد أو خارق أو استثنائي في المعنى أو في الرؤى، ما عدا بعض الاهتمام هنا وهناك، وبإيعاز ليقول إنني هنا في الخدمة وتحت الطلب، ولا يتقدّم خرائط جغرافيات المستقبل التي تُنذر بمكان خال للعرب... مكان يرمي فيه الآخر فتاته، وها هو "الروائي" يقتات منه ويتقوّت، حاملاً جذوة علّها تشحذ خياله المتصارع مع خياله.


* كاتب من الجزائر

المساهمون